من ضمن ما خرجنا به من رمضان جرعة إعلانية ضخمة جديرة بالبحث والتقصي والدراسة والتحليل. وبعيدًا عن مستوى الإعلانات وقيمتها الإعلانية والإعلامية، ننظر إلى الفجوة الطبقية التي عبر عنها بكل اقتدار دون أن يدري محتوى الإعلانات وعناوينها.
عناوين براقة وعبارات وضاحة، تلك التي ملأت "الساعات" بين مشاهد المسلسلات، فمن "قلبي ومفتاحه" مترجية أصحاب القلوب الرحيمة مساعدة أصحاب القلوب المريضة، إلى "شكرًا للي شال الفيشة" ومكن الأفراد من هجر حياة الصخب والإزعاج إلى حياة الهدوء والسكينة في أحد المنتجعات الراقية.
وبين رقي المنتجعات وسمو القلوب الرحيمة خيط رفيع يفصل بين جبهتين يقف أعضاؤهما على طرفي نقيض. فسكان المنتجعات الراقية هم على الأرجح المفترض أن يكونوا أصحاب القلوب الرحيمة التي ستفتح خزائنها وتكتب شيكاتها وتتوجه إلى بنوكها لتتبرع بمبالغ متفاوتة لعلاج الأطفال المرضى، أو الإفراج عن الأمهات الغارمات، أو كفالة بنية تحتية في قرية ضمن القرى الأكثر احتياجًا وهلم جرا.
وقد جرى العرف أن يتكافل الناس في المجتمعات، بمعنى أن يساعد من يملك من لا يملك، وهي مساعدات متفاوتة متراوحة بحسب مستوى الدولة الاقتصادي، ورفاهها الاجتماعي، وقدرات أبنائها.
ونضيف إلى ذلك في ضوء الظروف السياسية غير العادية أو الكوارث الطبيعية غير المتوقعة أو الأحوال المالية غير المستقرة تكون مسألة التكافل تلك قيد التقدير الشخصي والظرف العملي.
عمليًا المصريون شعب معطاء، وغالبيتهم يميل إلى عمل الخير بمساعدة المحتاج؛ بغض النظر عما نعانيه هذه الآونة من غمامة سلوكية وهبابة أخلاقية.
وتكفي متابعة نشاط المتسولين والمتسولات، لا سيما المتسولات المتقدمات في العمر، إذ تجد أفرادًا هم في أمس الحاجة إلى الجنيه يخرجونه عن طيب خاطر لإرضاء السيدة المتسولة.
وقس على ذلك مستويات مختلفة ودرجات متفاوتة من المصريين تتراوح بين إصرار كثيرين ممن هم مصنفون باعتبارهم فقراء أو بسطاء صعودًا إلى المقتدرين بفئاتهم المختلفة.
لكن الخلاف في شأن ما كشفت عنه الهوجة الإعلانية غير المسبوقة التي اجتاحت أرجاء المحروسة طيلة أيام الشهر الكريم يكمن في بضع نقاط وأسئلة:
كم تنفق المؤسسات الخيرية والأهلية على الإعلانات الداعية أهل الخير إلى التبرع؟
وكيف تنفق أموال التبرعات؟
وهل تضمن التبرعات استمرارية العمل؟ بمعنى قد تضمن التبرعات بناء مبنى أو تجهيزه أو ما شابه، لكن هل تضمن استمرار العلاج مثلًا؛ لا سيما إن كان العلاج مجانيًا؟
وهل هذه الهجمة الإعلانية المركزة في شهر رمضان لها مغزى آخر غير دغدغة مشاعر الصائمين المطالبين بعمل الخير؟
وماذا عن الموقف بقية شهور العام؟
ولماذا يختار المشاهد أن يتبرع لهذه المؤسسة وليس تلك؟
وهل هناك رقابة ما على قنوات تلقي وإنفاق التبرعات، وأشير في هذا الصدد إلى نوعية أخرى من الإعلانات، ولكنها تتوقف عند حدود جدران المباني في الشوارع؛ حيث "دار أيتام كذا" و"بيت استضافة كذا" يتلقى التبرعات لزواج اليتيمات.. إلخ، وأغلبها يحمل أسماء تنضح بمعان دينية حيث "التوحيد" و"الإيمان" و"هنادي الإسلامية" وغيرها.
وبعيدًا عن ماهية التبرعات ومصيرها، فقد ألقت الهجمة الإعلانية الرمضانية ضوءًا على الطبقات الاجتماعية التي هي في أغلبها اقتصادية في مصر؛ طبقة سكان المنتجعات المغلقة، وطبقة المعوزين المنتظرين وجبة، أو مياه شرب نظيفة، أو سقفًا يحميهم أو علاجًا يداويهم. وعلى الرغم من كل ما يقال حول ثراء المجتمعات بتنوعها، وقيمة الاختلاف في بناء الأمم والحضارات، وماهية التنوع المهم من أجل التقدم والارتقاء، إلا أن الاحتكاك الطبقي الواضح في مصر هذه الآونة لا يصب في هذه الخانات.
خانات اجتماعية عديدة وفجوات طبقية كثيرة في مصر تحتاج إلى كثير من العمل والجهد من أجل ملئها ملئًا يعود على الجميع بالنفع ويدرأ عنا خطر الاحتكاك والاحتقان.
فعلى "الناس اللي فوق" أن تعي أن حياتها لن تستوي إلا بالتكافل، ومد يد العون لـ"الناس اللي تحت"، والمقصود باليد ليس دس بضع جنيهات في يد جيوش المتسولين - وأغلبهم نصابون - ولا يعني كذلك شراء شوال أكل، وطن لحم للفقراء، ولكنه يعني تكافلًا مدروسًا قادرًا على دفع القابعين في قاعدة الهرم في الاتجاه المعاكس.
وعلى "الناس اللي تحت" أن يعوا إن السبب في فقرهم ليس "الناس اللي فوق"، (باستثناء ناهبي ثروات الشعوب ومبدديها)؛ هم فقراء لأسباب كثيرة تتراوح بين إرث سياسي واقتصادي خاطئ، وثقافة عمل شبه منعدمة، وتراث يرتدي جلباب الدين؛ يفتيهم بأن تنظيم الأسرة حرام، والعبادات تغني عن المعاملات والتصرفات، وأعداؤهم هم من يملكون أو يختلفون عنهم في المعتقد.
وأخيرًا وليس آخرًا، على الدولة التي تحوي وتحتضن هؤلاء وأولئك، أن يكون لديها خطة محكمة لدعم "اللي تحت" والأخذ بأياديهم؛ حتى يعبروا قاعدة الهرم، مع تنظيم رغبة "اللي فوق" للمساعدة والتبرع على هيئة مشروعات قومية غير مفتتة وغير مهلهلة، تعمل على معالجة أسباب الفقر على مستوى مصر بأكملها
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع