بقلم : أمينة خيري
ما إن رحلت عن عالمنا الدكتورة نوال السعداوى حتى هرع «الشعب الآخر» إلى صفحات الرثاء والوداع والاحتفاء بحياتها ليمطروها بما فى جعبتهم المعروفة من كراهية وعنف وتعالٍ وادّعاء بامتلاك الصكوك وترويج لأكذوبتهم الكبرى، ألا وهى أنهم الحق المبين وكل مَن عداهم هو شيطان رجيم. أُجِلّ الراحلة العظيمة كثيرًا، وأحيى فيها شجاعتها على المجاهرة بما آمنت به من أفكار ومواجهة حملات التجريم وغزوات التكفير. وبينما أوافقها فى الكثير من أفكارها وكتاباتها، لكن فى الوقت نفسه أختلف معها فى بعض ما كتبت. احترمت كل ما كان يصدر عنها، لكن لا أعتنقه بالضرورة. وهذا فى عالم الإنسانية طبيعى، وهو ما يفرق بيننا وبينهم.
نحن نفكر ونقرأ ونطّلع، ثم نفكر مجددًا، ونشكل وجداننا بمنهج نقدى بديلًا عن الإقبال والرضا وإدمان فكرة الانتماء إلى قطيع سلم مقاليد عقله على الباب ورفض حتى أن يتسلم الإيصال. الانتماء إلى قطيع ارتضى أن يلغى عقله تمامًا، بعدما توجه إلى الشهر العقارى وحرر توكيلًا عامًا رسميًا لآخرين بالتصرف الكامل فيما يملك دون شرط الاطّلاع.
ولسبب ما أعلمه ولن أصرح به، تذكرت كلمات أغنية الرائع على الحجار «إنتوا شعب وإحنا شعب»، التى كتبها الرائع أيضًا مدحت العدل، والتى أغضبت فريق رافضى الاعتراف بما جرى فى مصر على مدار نصف القرن. مؤلم؟ نعم! كنا نتمنى ألا يحدث هذا التفسخ والقبح الفكرى؟ نعم، بكل تأكيد لكنه حدث، وإنكاره أو منع أغنية أو حجب فكرة تتناوله سيُسكِّن الألم، لكنه لن يعالج المرض.
«إحنا بنشوف الطفولة، وإنتم شايفينها سبايا تثبتوا بيها الفحولة. إحنا يسعدنا خيالها لما ترسم فى كتاب. إنتم لو عدى خيالها يطلعلكوا فى ثانية ناب. إنتم بتحبوا الجهامة، وإحنا بنحب ابتسامة. إحنا حرية وكرامة، وانتم سجن وشرع غاب. مصر بالنسبة لكم خيمة أو إمارة أو حريم. إحنا بنشوف ربنا رحمة للعبد اللى تاه، عفو عن مخطئ مسىء، توبة أو طوق للنجاة، وانتم ثعبان القبور والمقارع للحريم. اللى يختلف فى الرأى عنكم تحلّوا دمه وتقتلوه وتقولوا ديننا قالّنا. أى دين يا أدعياء؟ واللى بيفكر ده ضال، وتحرّموا حتى الحلال وتحللوا فكر الضلال. إحنا شعب وانتم شعب».
هذه الكلمات تلخص رد فعل جموع الممسوحين فكريًا، المُغيَّبين ذهنيًا، الكارهين للحياة ومَن فيها باستثناء كل مَن على شاكلتهم من أدمغة ممحوة وعقول ملغاة. ليس مطلوبًا أن يقبل أحد أفكارًا لا تعجبه أو يعتنق توجهات لا توافقه. المطلوب قبول الاختلاف ونبذ نعرة الفوقية حيث «أنا» وحدى مَن أمتلك الحقيقة، و«أنا» وحدى مَن أحمل صك مَن يذهب إلى الجنة. هؤلاء اعتدوا على الدين ونصّبوا أنفسهم وكلاء الله. والأدهى من ذلك أن الغالبية منهم لم تقرأ يومًا ما كتبت نوال السعداوى، ومَن قرأ فقرأ ما كتبه عنها أمراؤهم ومالكو مقاليد عقولهم