بقلم - أمينة خيري
عن «القوة الناعمة» لمصر دعتنى كلية الإعلام فى الجامعة العربية المفتوحة ويرأس فرعها فى مصر الدكتور عبدالحى عبيد لأتحدث وزميلى الكاتب إميل أمين مع الطلاب والطالبات، وقد اكتشفت أنه مرت سنوات قليلة، لكنها تبدو طويلة منذ تداولنا فى مصر هذا المصطلح، ويبدو أنه ظهر على السطح فجأة مع غيره من المصطلحات التى دغدغت مشاعرنا وضعضعت أحلامنا وهتكت عرض توقعاتنا فى أعقاب ثورة يناير 2011.
كل ما أتذكره عن هذا المصطلح لمحة سريعة ترفض ذاكرتى استحضار كل ملامحها رأفة بأعصابى وحفاظًا على مستوى السكر فى دمى. وفد من المصريين الذين لا أشك أو أشكك فى وطنيتهم، لكنى أشك وأشكك فيما ترتب على ما فعلوا. فتحت بند «قوة مصر الناعمة» و«وفودها الشعبية المحبة للسلام والوئام» جال أولئك المواطنون، وبينهم عدد غير قليل من الإعلاميين والصحفيين والسياسيين والشخصيات العامة عددًا من الدول، لا سيما تلك التى شابت علاقاتها بمصر احتقانات وخلافات مثل إثيوبيا وإيران. والحقيقة أن تفاصيل ما جرى فى هذه الزيارات المندرجة تحت تصنيف «القوة الناعمة» من لقاءات شعبية ورسمية وغيرها لم يُعرف حتى اللحظة، ويُفضل أن يبقى كذلك «لأننا مش ناقصين» و«اللى فينا مكفينا».
وكانت هذه الدعوة الكريمة كافية لتعيد المصطلح إلى السطح بعد سنوات من الاندثار الثورى. ورغم أن المصطلح لم يتداوله المصريون تداولاً لفظيًا إلا فى أعقاب ثورة يناير، إلا أنهم ظلوا عقودًا طويلة يفعلونه دون أن يتوقفوا عند التسمية. أفلام، كتب، مسرح، أدب، نحت، رقص، غناء وغيرها الكثير من مكونات المد المصرى الثقافى. ولاحظت أن كل ما سبق وقع ضحية مأسوفًا عليها على مدار العقود الأربعة الماضية. فجميعها تم تحريمه من قبل المد الدينى- أو بالأحرى التديينى- الذى اجتاح المحروسة. كل ما سبق يعتبره مشايخ التفسير المغلوط حراما أو غير مستحب.
وطالما لا نحب الشىء، فكيف نقدمه بشكل مبهر ومؤثر؟ صحيح أن البعض نجا من هجمة التحريم الشرسة، إلا أن المنتج الثقافى تأثر سلبًا، ومعه تأثرت قوة مصر الناعمة وقدرتها على التأثير فيمن حولها سلبًا أيضًا. فقد ظهر منافسون كثيرون على الساحة. وتطورت قدرات الآخرين سريعًا، فيما تدهورت قدراتنا سريعًا أيضًا. ولم يتنبه أولو الأمر مما يحدث من سلب مصر قوتها الناعمة، وربما تنبهوا لكن لم يكترثوا، فتركوا التعليم يتهاوى، والثقافة والفن والآداب تنحدر، والذوق العام يتدهور، وجماعات الغل الدينى السياسى تتوغل، ومجموعات القبح والمسخ والتشويه تتمكن.
وقد تمكنت منا محتويات البالوعات الفكرية والسلوكية والتعليمية التى ظلت كامنة إلى أن أزاحت عنها ثورة يناير الغطاء فانفجرت فى وجوه الجميع. وبينما نحن منهمكون منشغلون محاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تفاصيل حياتنا اليومية بعد ثمانى سنوات من الهبد والرزع السياسى والاقتصادى والاجتماعى والدينى والنفسى، إذا بحقيقة اضمحلال قوتنا الناعمة تباغتنا.
وسبب المباغتة فى ظنى هو كم المقارنات الذى نعقده بيننا وبين من هرعوا لصناعة قوى ناعمة لأنفسهم علها تفيدهم فى يوم أسود. تأسيس قنوات فضائية تتحدث بلغات الغرب وبتركيبته الفكرية والثقافية، فرض سطوة صحف ومجلات تعد هى الأعتى والأكثر مصداقية فى أقوى دول العالم وأكثرها تأثيرًا فى السياسة الدولية، أسهم فى أكبر مراكز البحث والدراسات والعصف الذهنى ومن ثم قدرة فعلية وحقيقية فى التأثير على قلوب وعقول الملايين حول العالم. وإذا أضفنا إلى ذلك ضلوع عنكبوتى معتبر، سواء بطرق مباشرة للسيطرة على توجهات أثير الإنترنت أو بسبل غير مباشرة عبر تسخير آخرين للقيام بذلك، تكون القوى الناعمة قد تحولت فى جانب منها إلى حادة وعنيفة عنفًا فكريًا وذهنيًا.
أما نحن، فقوتنا الناعمة تعانى داخليًا قبل أن تكون معاناتها خارجية. وقبل دقائق سمعت أغنية طفلة صغيرة متداولة على الإنترنت تقول كلماتها «حادى بادى كرنب زبادى، عدد القنوات بقى مش عادى. توك شو شغال ليل ونهار، وخناقة ما بين ضيف ومذيع، هرى كتير نفس المواضيع، وياريت حتى وصلنا لحاجة. ناس تانى بتغنى فى ظلموه، تركى وهندى وحكايات ياهوو وحلقات مابتخلصش ياسادة».
قوتنا الإعلامية الناعمة تطيح بنا وبأدمغتنا وبأذهاننا أرضًا. هوجة التوك شو المستعر لم تعد تنطلى على أحد. وهبات احتكار الوطنية، وامتلاك صكوك المفهومية، والقدرة على توجيه رأى عام الأغلبية التى يدعيها كثيرون ممن يطلون علينا عبر الشاشات أبعد ما تكون عن القوى الناعمة، بل هى قوى مدمرة لنفسها ومن حولها. ولو أردنا أن تسترد قوتنا الناعمة، فعلينا أن نصحح إعلامنا الموجه لأنفسنا أولاً قبل أن نوجهه لآخرين، ونطهر ما علق بثقافتنا وفنوننا من جرائم التحريم، ونحرر عقول المبدعين من قيود التوجيه والترهيب والتمويع.
الأرض ممهدة لصناعة قوى مصرية ناعمة، لكن مكبلات التديين، وعراقيل احتكار الوطنية والمفهومية، وعزلة أهل الفن والثقافة والأدب، وإطلاق يد عديمى الموهبة والابتكار بديلاً عن الموهوبين باقتدار تكتم أنفاس قوة مصر الناعمة وتبقى عليها نائمة.
نقلا عن المصيري اليوم القاهرية