بقلم : أمينة خيري
نظلم ريهام سعيد كثيرًا حين نضعها فى قفص الاتهام. ونسطح الأزمة تمامًا حين نختزلها فى إهانتها للممتلئات. ونتهاون فى حقوقنا جدًا لو اعتبرنا أن المذكورة جرحت مشاعرنا الرقيقة، وأضرت قيمنا وسلوكياتنا الراقية بما تفوهت به فى الحلقة التى صارت الأكثر مشاهدة والأعلى ترندًا.
ترند الإعلام الحالى هو كل ما من شأنه أن يصدم أو يخدش أو ينهش. والأكثر مشاهدة هو الذى يحوى سبابًا أو خرافة أو خرفًا أو تشددًا أو كل ما من شأنه أن يدغدغ مشاعر العامة التى لا تجد ما يثقفها أو يرفه عنها أو ينورها. ريهام سعيد ليست وليدة اليوم، لكنها- وغيرها- تٌرِكوا ليرتعوا فى أدمغتنا ويعيثون فسادًا فى وعينا منذ سنوات طويلة. بدت المسألة فى بداياتها كأنها نكتة. مذيعة شقراء تدغدغ مشاعر العوام بالحديث عن الجن الساكن فى أجساد الفتيات، والأعمال المجهزة للضرر بالعائلات. وأذكر قبل سنوات كثيرة حين كنت أعود إلى البيت لأجد الشابة التى كنت أستعين بها للمساعدة فى أعمال البيت، وهى حاصلة على دبلوم معهد «أزهرى» وهى تنهنه وتصدر أصواتًا غريبة. أسألها ما بها، فترد بكل أريحية: «كنت أشاهد حلقة الأستاذة ريهام واستضافت بنت راكبها جن ولقيت عندى كل الأعراض. أنا راكبنى جن».
تُرِكت «الأستاذة» تفرط فى غرس جذور الهبل وتثبيت قواعد الجهل سنوات طويلة. لماذا؟ لأن الجهل فى بلدنا كثير، ولا يقابله تثقيف أو تنوير. ولأن المتابعين من القاعدة الشعبية بالملايين، وهذا يعنى أن المعلنين مستعدون لدفع الملايين أيضًا.
وبعيدًا عن السرد المعتاد لضربات «الأستاذة» المتتالية، وتحقيقها النجومية المرجوة والترند المبتغى عبر حلقة كارثية هنا وكلام فضائحى هناك ينجم عنهما إيقاف هو فى حقيقة الأمر يحقق المزيد من النجومية، ثم عودة وإغراق فى مزيد من الإسفاف، فإن الدول التى سبقتنا فى مسيرتها الإعلامية التنويرية لا توقف مثل هذه البرامج أو ترسل رقيبها بمقص لتضبيط المادة الإعلامية بحسب ما ورد فى كتاب سنة أولى كلية إعلام.
هذه الدول تتبع مسارين رئيسيين: الأول التحرك بناء على شكاوى مقدمة من قبل المتلقى حيث يجرى التحقيق وتحليل المحتوى، لا بحسب درجة تدين المحقق أو أهوائه الشخصية أو معتقداته التى نشأ عليها، ولكن بحسب قواعد مكتوبة ومنصوص عليها فى مواثيق ملزمة للجميع. والثانى أن هذه الدول لا تطبق على نفس الإعلام أو تنصب نفسها مسؤولاً أوحد أو مهيمنًا واحدًا لا ثانى له على المنصات الإعلامية. ولذلك تجد لديها منتجًا إعلاميًا شديد التنوع ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا، وهو ما يعرض المتلقى لتجارب مختلفة. يشاهد دجلاً ونصبًا هنا، وتنويرًا وتثقيفًا هناك، ويختار ما يناسبه. بالطبع المتلقى يحتاج ثقافة إعلامية وقدرة على التفكير والاختيار، لكن المؤكد أن فتح المجال خطوة على الطريق الصحيح.