بقلم : أمينة خيري
كثيرًا ما تتحول تفاصيل الحياة من حولنا إلى أشياء عادية بعد مرور الوقت. قد تكون هذه التفاصيل فى بداياتها غريبة أو مثيرة أو سخيفة أو حتى مثيرة للقرف والغثيان، لكن مرور الوقت مع عدم التدخل للتغيير أو التعديل يجعلها أمورًا عادية قلما تزعج أحدًا. خذ عندك مثلاً النسق- أو بالأحرى اللانسق المعمارى- فى مدننا. أتحدث عن المبانى الحديثة التى يقرر أصحابها أن يمزجوا طرزا رومانية مع إسلامية وقليلاً من الحداثة وقدرًا من السريالية ليخرج المبنى لائقًا بسكن الزومبيز وعائلاتهم. حتى عمليات طلاء واجهات البيوت تغلب عليها العشوائية وعدم الاتساق بشكل يؤرق دافينشى وبيكاسو ومحمود سعيد فى قبورهم.
والقبور ليست حكرًا على الأموات، فبيننا من لا يتضرر من صبغ الحياة بتصرفات تسلبنا قيمة الحياة. قبل أيام، قالت صديقة إنها دخلت الحمام فى أحد المطارات، فوجدت مجموعة من عاملات المنازل الفلبينيات المسافرات إلى وجهة عملهن وقد انهمكن فى غسل وجوههن، ثم تنظيف أسنانهن، حتى امتلأ المكان برائحة النظافة. تعليق الصديقة دار فى محور الربط العجيب الغريب المريب الذى يربطه بعضنا بين قلة النظافة، سواء الشخصية أو العامة، ومستوى الغلب والفقر والقهر. فما إن تنتقد تقصير البعض فى نظافتهم ونظافتهن الشخصية فى عربة مترو الأنفاق، حتى يهب عليك أعضاء حزب «آه يا بلد الفقير فيك مظلوم ومقهور ومسحول» و«كيف يمكن للفقير أن ينفق آلاف الجنيهات على البرفانات الباريسية؟!». ملحوظة الصديقة جاءت فى محلها تمامًا. فالمطلوب ليس الحصول على قروض بنكية لشراء العطور الفرنسية. فالاستحمام يكفى، والنظافة الشخصية بعد دخول الحمام تغنى. كثيرون منا مقصرون فى حق أنفسهم فى هذه النواحى، وهذا التقصير ليس حكرًا على فئة أو قطاع. وربط التقصير فى النظافة الشخصية بالمستوى الاقتصادى إهانة للجميع ومهانة للعقل والمنطق وتشجيع مبطن للبعض بأن يمضى قدمًا فى الاستهانة بنظافته وصحته وصحة الآخرين.
وعلى سيرة الصحة، شهدت معركة كلامية بين بائع الأجبان فى سوبر ماركت وأحد الزبائن، إذ كان البائع يحمل «صفيحة» جبن يملؤها الصدأ من الخارج، وبعد ما وضعها مكانها، جفف عرقه بيده، ثم هرع ليرتدى القفاز البلاستيكى «المستعمل» ليستأنف البيع. وحين طالبه الزبون بغسل يديه، رد مستهزئاً: هو أنا هاعمل عملية جراحية؟!
العملية الجراحية الحقيقية المطلوبة هى إصلاح هذا العوار فى التفكير، وهو لن ينصلح بتطبيق القوانين التى تعاقب على إلقاء القمامة فى الطريق (فتطبيق مثل هذه القوانين وغيرها من مرور وغيره ميت إكلينيكيًا)، لكنها تأتى عبر التعليم الذى نقاوم إصلاحه بكل ما أوتينا من عناد، وعن طريق الخطاب الدينى، حيث توزيع عادل للقضايا بدلاً من التركيز فقط على النقاب وعذاب القبر وحكم التاتو والقوافل الدعوية فى الساحل. النظافة ليست فقط من الإيمان، لكنها حياة.