القاهرة - مصر اليوم
مشاعر الاستغراب والاستعجاب والاندهاش من مبلغ «الخمسة مليارات التى أنفقتها الدولة على المساجد خلال السنوات الخمس الماضية» لا تأتى بالضرورة من قبل فاسقين زنادقة كارهين للدين ومعادين للمتدينين. والاستفسار الاستنكارى المتمثل فى هل مصر والمصريون قادرون على إنفاق خمسة مليارات جنيه فى خمس سنوات بواقع مليار كل عام لبناء مساجد للصلاة؟ وهل هناك مليارات أخرى متوافرة لتمويل التعليم وتدريب المعلمين وتأهيلهم تربوياً بعد عقود تحولت خلالها المدارس إلى هياكل بناء وانتقال العملية التعليمية التلقينية إلى «سناتر» يتكسب منها المعلمون مليارات تدخل جيوبهم دون أن تمر على قنوات ضريبية ويخرج ملايين الشباب والشابات من الحاملين للشهادات دون محتوى تربوى أو أخلاقى بحدهما الأدنى؟ وهل تتوافر لدينا مليارات مشابهة لتمويل البحث العلمى فى الجامعات بدلاً من أضغاث الأبحاث التى يتم إنجازها بفضل «جوجل» تارة وإعادة تدوير الموجود تارة أخرى بغية الترقى والأستاذية؟
وهل تتوافر لدينا مليارات مثلها لتجديد المحتوى الثقافى بشكل ينافس أغانى المهرجانات وأفلام الفنان محمد رمضان منافسة شريفة بعيداً عن الهبد والرزع النظريين دون تقديم بدائل تنظف الآذان وتسمو بالأرواح؟ وقائمة الأسئلة المليارية لا تعد أو تحصى فى دولة تحاول لملمة اقتصادها بعد خبطات موجعة دهورتها أحداث سياسية جسام، وضاعفت من آثارها جائحة وبائية وجوائح أخلاقية وقيمية ناجمة عن سنوات من التجريف وإهمال العنصر البشرى. وهذا الإهمال يعبر عن نفسه تارة باعتبار البناء على أرض زراعية هو حق الأجيال القادمة حقاً أصيلاً، والبناء المخالف «عادى يعنى مش مشكلة»، وتارة أخرى بالنظر إلى الالتزام بالقانون- أى قانون- مسألة هامشية لا جدوى منها، وثالثة باعتناق منهج قوامه ضخ المزيد من العيال لسوق العمل فى التكاتك والدليفرى والسياس وعالم التسول لرفع مستوى معيشة الأسر من جهة واتباع فتاوى تحريم تنظيم النسل من جهة أخرى. كبرنا ونحن نعرف أن المسلم يمكنه أن يصلى فى أى مكان طالما المكان طاهر، وطالما لا يعطل مصالح الناس!!
وكبرنا وهرمنا ونحن نرى حركة بناء هستيرى لمساجد وزوايا بالقانون وبدونه حتى أصبح بين الجامع والجامع جامع. وأخبرنا الأجداد أن ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع. وما يحتاجه البيت بشدة هو التعليم والتثقيف والتربية (والتربية هنا معناها القيم والقواعد الأخلاقية وليس تنصيب أنفسنا جماعات أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فى الأمور الظاهرية). والسؤال هو: هل كان من شأن تخصيص نصف أو ربع أو ثمن هذه المليارات الخمسة لتنقيح حقيقى للشخصية المصرية التى تعانى الأمرين من انحدار أخلاقى (رغم مظاهر التدين الرهيب) وتدهور قيمى (رغم الالتزام المظهرى الفظيع) أن يدمر الدين ويفتك بالمتدينين؟ وهل الدولة مضطرة لمغازلة تيارات «سلفية» مهيمنة على الهوى الشعبى و«راشقة» على الساحة السياسية التى تسمح بأحزاب دينية نظرياً لكن تقبل بها فعلياً؟