بقلم : أمينة خيري
قررت أن أمضى بعض الوقت بعيدًا عن الأمطار الغزيرة التى تحولت إعصارًا. (الإعصار سبقه تحذيرات ونصائح حول الخطوات التى يجب اتباعها وأرقام الهواتف التى تقدم خدمات الإنقاذ فى الحالات الطارئة)، وجدت ضالتى المنشودة فى ندوة لمؤلفتين تتحدثان عن كتابهما الصادر قبل أيام والموثق للإساءات الجنسية فى المدارس الثانوية الأمريكية. الندوة فى المكتبة العامة فى «فايتفيل»، هذه المدينة الصغيرة فى ولاية أركنسو الأمريكية الواقعة فى الجنوب الشرقى.
وباعتبارى مواطنة مصرية أصيلة، فقد أخذت عدتى وتسلحت بجواز سفرى ومبالغ مالية فئات مختلفة من أجل حضور الندوة. صدمتى الأولى كانت فى المبنى المهيب للمكتبة العامة فى هذه المدينة متناهية الصغر. المبنى العملاق من حيث المساحة وليس الارتفاع يحوى آلافًا مؤلفة من الكتب ومئات من المترددين. موظفو الاستقبال أغلبهم تعدى سن السبعين من العمر. الجميع يهمس لأن الجميع يعلم أنه فى مكتبة للقراءة وليس فى سوق الثلاثاء. لا أثر لقمامة هنا أو رائحة كريهة صادرة عن حمام هناك، أو عامل يفتح لك الباب منذرًا إياك بـ«كل سنة وأنت طيب». وبينما أهم بشرح موقفى وأننى جئت من بلاد بعيدة وأود حضور الندوة، وأننى لم أحجز مسبقًا، إذ بالسيدة تهمس لى بابتسامة عريضة: «أهلا وسهلاً بك. كل ما عليك فعله هو الاصطفاف هنا وسيتم فتح الباب بعد سبع دقائق».
الطابور منظره يفرح. لا مجال للفهلوة أو فرصة للبلطجة أو مدام عنايات تخترق الصف لأن عيالها السبعة فى البيت وحدهم وعليها أن تدخل أولاً، أو الأستاذ فتحى يقتحم باب الدخول رافعًا شعار «وإيه المشكلة يعنى؟» بعد سبع دقائق، ينفتح الباب. دخل الجميع دون تدافع. مرت عشر دقائق قبل بدء الندوة، حيث الحديث بين الحاضرين والحاضرات عن الكتب التى قرأوها فى المكتبة، والأنشطة المنخرطين فيها والخاصة بالمكتبة، حيث جولة توثيقية يوم الأحد لتصوير وتدوين المعلومات حول الطيور الموجودة فى المتنزه المجاور للمكتبة، ولقاء يوم الجمعة لبحث سبل إثراء مكتبات المدارس الابتدائية فى المدينة بكتب إضافية عبر تبرعات أهل المدينة ومخاطبات للشركات ورجال الأعمال الذين ينتفعون ماديًا من أعمالهم فى فايبتفيل للمشاركة المجتمعية، وهلم جراً.
ثم تبدأ الندوة. الميسرة صحفية فى جريدة المدينة المحلية. تتحدث المؤلفتان عن الكتاب، وظروف تأليفه، والصعوبات التى واجهتهما... إلخ. الجميع منصت. لا صوت هاتف محمول يرن مزعجًا الجميع، أو حضور متأخر يفتح الباب ويغلقه بعد الوقت المحدد. يسمونه احترام المكان والمناسبة والآخرين. يتم فتح الباب لأسئلة الحضور. كلمة شكر قصيرة جدًا، ثم تعليق أو سؤال مقتضب دون ادعاء معرفة غير موجودة أو لف ودوران للإمساك بالميكروفون أطول وقت ممكن.
تنتهى الندوة. يترك الجميع القاعة بهدوء دون تدافع أو صخب. ينطلق كل فى طريق. وتبقى المكتبة العامة شاهدة على رفعة الأمم أو تراجعها.