بعد ثمانى سنوات من الحلم والكوابيس، ومحاولات التغيير وجهود الاستلاب والسيطرة والسرقة، وقفزة الإنقاذ وبعدها هرج السياسة ومرج التنظير، مع كثير من اللف والدوران فى دوائر مغلقة من التفرغ التام لتبادل الاتهامات، أقول- وكلى ثقة واطمئنان- إن العنصر البشرى فى حاجة ماسة وعاجلة وآنية لإعادة الهيكلة.
إعادة هيكلة وإصلاح وتنقية الهيئات والمؤسسات والوزارات والشركات والجامعات والمدارس وغيرها لن تجدى نفعًا أو تؤتىَ ثمارًا دون أن تكون الأدمغة البشرية التى تديرها وتُفَعلها وتعمل فيها مؤهلة وقادرة، وإلا بقى الحال محلك سر، وظل الوضع على ما هو عليه.
وعلى سيرة الوضع وما هو عليه، أشير إلى أنه حين يعبر طلاب وطالبات اختاروا دراسة الإعلام أنهم ليسوا مهتمين بالأخبار، ولا يرغبون فى متابعة الأحداث، ولا يعلمون من الأصل أن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسية (حتى وإن كانت أجواؤها غير مرضية لكثيرين)، ولم يسمعوا من قبل عن حكاية حقل «ظهر» أو موضوع استيراد الغاز من إسرائيل وغيرها من الموضوعات الحيوية، فإن فى الوضع عوارًا وفى الحال آفة.
آفات عديدة تحيط بنا فى العام الـ18 من الألفية الثالثة. ومنها مسارات أربعة لشباب وشابات مصر لا خامس لها: فإما ارتماء فى أحضان شيخ زاوية يدعو إلى الجهاد بحمل السلاح ومقاتلة أعداء الله الذين قد يكونون أسرة أو أصدقاء أو حكامًا، أو انغماس فى دهاليز الضياع من مخدرات وأعمال خارجة عن القانون وغيرها، أو بلا كلية وانفصال تام والعيش كـ«زومبيز» لا علاقة لهم بالمكان أو الزمان، وأخيرًا وهم الأقلية اهتمام بالشأن العام ورغبة فى إصلاح الحال. وهذه الفئة الأخيرة لديها قناعة إنها لا حول لها أو قوة، حيث إما شبح التضييق أو وسواس تبدد الجهود فى الهواء.
هواء مصر يقولون عنه إنه عليل. وللكلمة معنيان، أولهما النسيم الرقيق، وثانيهما من العلة أى المرض. ورغم توافر النسيم، إلا أن المرض طغى عليه كثيرًا على مدار ما يزيد على ثلاثة عقود. ودون الخوض فى ما قيل مئات المرات عن تجريف الشخصية المصرية، وغرقها فى وسواس التديين المظهرى، ونبذ الثقافة والهوية المصرية نبذًا لا ريب فيه إلى آخر القائمة، إعادة البناء باتت واجبة.
وواجب الجميع لا يقتصر على تنظير القهاوى، أو بكائيات التواصل الاجتماعى، أو فش الغل عن طريق الانفجار فى المحيطين (لاحظ حال الشارع الذى يليق بالأحراش والغابات)، لكنه يشمل طرح أفكار بناءة لعلها تساهم فى علاج الآفة والدفع بنا بعيدًا عن قاع المستنقع.
قبل سنوات طويلة كان هناك شىء اسمه «الخدمة العامة» يؤديه خريجو الجامعات ممن يتم إعفاؤهم من التجنيد، وكل الخريجات من الإناث. الفكرة الأصلية كانت القيام لمدة عام بأنشطة خدمة مجتمعية فى المنطقة التى يسكنها الخريج، مثل محو أمية الكبار أو ما شابه، وذلك فى مقابل مبلغ مالى رمزى بمثابة «حق مواصلات». صحيح أن الجينات التواكلية والتركيبة المصرية التى جعلت من الوساطة والمحسوبية طريقًا لكل هارب من أداء الواجب- حولت «الخدمة العامة» حبرًا على ورق، لكن الفكرة عظيمة.
وتزداد عظمتها، ويتضاعف أثرها، إذا تم تطبيقها فعليًا، وليس نظريًا على طلاب الجامعات أو المرحلة الثانوية فى مقابل نسبة مئوية تضاف إلى مجموع الطالب والطالبة. فى بعض الدول الأوروبية وفى الولايات المتحدة الأمريكية هناك ما يسمى بـ«خدمة المجتمع» أى Community Service
يؤديها الطلاب لخدمة المجتمع الموجودة فيه الجامعة أو المدرسة، وهى تحسب بعدد معين من الساعات الدراسية وتضاف إلى المجموع. فبين خدمة مسنين إلى أيتام إلى أصحاب القدرات الخاصة إلى أعمال نظافة وغيرها الكثير من الأعمال الخدمية ولا يسمونها خيرية.
خير لنا ولمستقبلنا أن نبدأ، أمس، وليس غدًا فى إعادة هيكلة مواردنا البشرية التى ضربها كل أنواع العطب. الشباب والشابات الذين لا يجدون هاديًا أو سبيلاً سوى الإنترنت أو شيخ الزاوية أو تاجر المخدرات أو عالم البلادة والانفصال عن الواقع يمكنهم أن يجدوا فى «الخدمة العامة» أو «خدمة المجتمع منقذًا وصقلاً للخبرة الحقيقية وليست خبرة الإنترنت المضخمة للذات عنكبوتيًا. وهى قادرة على أن تكون منقذة للمجتمع كذلك الغارق حتى شوشته إما فى فتاوى مضاجعة الزوجة الميتة وحكم لمس الزوجة فى نهار رمضان وحكم المرأة التى يظهر أصبع رجلها الصغير من الشبشب، أو فى عوالم فضائية قادرة على حل كل مشاكل مصر فى قعدة مع حجرين شيشة أو مشوار تاكسى من ميدان العتبة لشارع محمد على، أو فى مستنقع النصب والاحتيال وأعمال السمسرة بأنواعها.
أنواع خدمة المجتمع كثيرة وعديدة، ويمكن عمل خطة لترتيب الأولويات بين النظافة والتوعية بها، ومحو أمية الكبار، ورعاية المسنين وأصحاب القدرات الخاصة وغيرها كثير.
فقط نصيحة لوجه الله، رجاء الإبقاء على المؤسسات الدينية بأنواعها وأشكالها بعيدًا عن خدمة المجتمع، مع كامل الاحترام لها وكثير من اللوم لمن تقاعس منها عن أولوية تحديث الخطاب الدينى. خدمة المجتمع مشروع قومى مدنى لا يهدف إلى نشر الدعوة، أو إحراز الحسنات، أو إنجاز صدقات. هى دعوة صادقة لتحسين المجتمع، بعيدًا عن المسخ الذى أصابه.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية