بقلم : أمينة خيري
لم نعد فى عصر التحول الرقمى، بل أصبحنا فى قلب العصر الرقمى، بما فى ذلك ما ومن فاتهم قطار التحول أو تجاهلوه أو اعتقدوا أنهم بدونه مستمرون وفاعلون. والعصر الرقمى ليس مجرد تحول من كتابة مقال صحفى على الكمبيوتر بدلاً من الورقة، أو إتاحة موضوع صحفى ليقرأه المتابعون على الشاشات، وليس فقط من خلال النسخة الورقية. كما أنه ليس مختزلاً فى استخراج شهادة ميلاد عبر تطبيق عنكبوتى بدلاً من الدوخات السبع من هذا المكتب إلى ذاك. كما أنه ليس امتحاناً إلكترونياً على شاشة تفاعلية بدلاً من الامتحان الذى نسكب فيه معلوماتنا على ورقة يتم نقلها إلى «الكنترول» لتخضع لأيادى المصححين. وهو ليس ملصقاً ذكياً بديلاً عن سداد الجنيهات العشرة على «كارتة» طريق السويس أو تسجيل حضور وانصراف إلكترونى. وهو ليس بطاقة تموين رقمية بديلاً عن دفتر زمان. صحيح أن كل ما سبق يقلص «إلى حد ما» هامش الرشوة العريض والكبير، ويحارب فساد الذمم بقدر كبير، إلا أن مسألة التحول الرقمى ودخولنا العصر الرقمى أكبر من ذلك بكثير.
والأدهى من ذلك أن هناك من يظن أن حذاقته فى صناعة تريند أو قدرته على حشد ميليشيات إلكترونية أو حتى ميليشيات مغيبة تم نزع فتيل قدرتها على التفكير فصارت أيادى تدق على أزرار الـ«كيبورد» تحقيقاً لغايات المرشد أو تفعيلاً لأهداف جماعة ما فى مكان ما. كما أنها ليست تدوينة نارية على «فيسبوك» أو مقطعاً رهيباً على «تيك توك» أو صورة دراماتيكية على «إنستجرام». وهى بكل تأكيد ليست «شير فى الخير» دون عقل أو «انسخها وانقلها لتعم المصلحة» دون أدنى تفكر أو تدبر. ما سبق لا يعنى أبداً تقليلاً من شأن أو قيمة أو مكانة المنصات الرقمية، وقدراتها الفذة على تحريك ما فقدنا الأمل فى تحريكه أو إيقاظ ما ظنناه ميتاً إكلينيكياً منذ عقود، وأعنى تحديداً اهتمام الناس بالشأن العام واكتشافهم أن لهم حقوقاً (وإن ظلت خانة الواجبات غائبة بعض الشىء فى حرم منصات التواصل الاجتماعى).
ما سبق يعنى أن لكل شىء أصولاً وقواعد. ويعنى أن العشوائية والفوضى العارمة والشعبوية الطاغية حتى وإن بدت أدوات ثورية جذابة، فمآلها خراب ودمار على الثوار والمطالبين بالتغيير والمنتفضين من أجل العدالة قبل غيرهم.
وما سبق لا يعنى من قريب أو بعيد أو حتى ما بينهما أن كاتبة هذه السطور تطالب برقيب سوى المنطق، أو بقيد باستثناء الصالح العام، أو بمنظم إلا الضمير المدنى. وما حرك كل ما سبق من أفكار هو ما قاله المتحدث باسم مجلس الوزراء المستشار نادر سعد قبل أيام فى مداخلة تليفزيونية وتحديداً عبارة أظنها عبقرية. قال فى إطار توضيحه لعدد من الحقائق ونفيه لسيل من القيل والقال: «الدولة المصرية لا تتخذ قراراتها عبر تريند تويتر. القرارات تُتخذ وفق الصالح العام».
والصالح العام فى العصر الرقمى يعنى أن نهدأ قليلاً ونفكر بعض الشىء قبل الدق الجنونى على هذه الشاشات التى أصبحت فى متناول الغالبية. «إلغى الدراسة يا وزير التعليم» «افتح المدارس» «اقفل المدارس» «عايزين اللقاح» «حاذروا من اللقاح» «اللقاح فيه سموم وخنازير ورجل هدهد يتيم» «الحكومة ستهدم بيوت الغلابة فى العشوائيات على رؤوسهم» «هيلغوا بطاقات التموين» «هيقفلوا الجامعات الحكومية» «هيهدموا الجوامع علشان يبنوا كباريهات» «اقفل المحلات» «افتح المحلات» وقائمة الهرى والتريند والشير أطول من أن يتم احتواؤها فى مقال أو مداخلة أو توضيح.
التوضيح الوحيد الممكن فيما نعيشه من عصر تمكين رقمى هو أننا نعيش عصر الخواء المعرفى والفراغ الثقافى بعدما تم تجريفنا على مدار عقود حتى بات وعينا الوحيد وعياً نعتقد أنه دينى، لكنه فى حقيقة الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. العصر الرقمى يرحب بالحراك الشعبى عبر منصات التواصل الاجتماعى شرط أن يكون حراكاً مبنياً على عقل لا قلته، وعلى وعى لا انعدامه، وعلى تقديس للمصلحة العامة لا عبادة للمصالح الشخصية.
وحتى لا نظلم أنفسنا، لأننا بالفعل ضحايا ولسنا مجرمين، فإن تعويض عقود التجريف وتقليص الخراب الناتج عن الاعتقاد بأن هبد التواصل الاجتماعى هو تحول فعلى إلى العصر الرقمى فإن علينا أن نعى أن العصر الرقمى يقوم على ثلاثة أسس: هى: إجراء أو عملية وتكنولوجيا وثقافة. الإجراء موجود وبوفرة وأصبح يحيط بنا بأشكال شتى. والتكنولوجيا أيضاً متوفرة ولو كانت بهاتف محمول عتيق. أما الثقافة فهى مربط الفرس، وهى الداء والدواء. فقد ارتحلنا بكامل عتادنا من العصر ما قبل الرقمى حيث «قالك وبيقولك» التى نرددها على القهوة إلى الشاشات والمنصات. وإذا كان الهبد دون تعقل، والرزع دون تدبر على مواقع التواصل الاجتماعى حرية شخصية، فهو أيضاً عملية انتحار جماعية.