بقلم - أمينة خيري
فى ضوء غياب الدراسات الميدانية وتقلُّص الاستقصاءات الحقيقية أقول إن قلة قليلة فى مصر متضررة من الغياب «المتعمد» لتطبيق القانون. هذه القلة هى التى يحترق دمها ويعلو ضغطها ويتعكر مزاجها بمشاهدة أحدهم سائراً عكس الاتجاه بأقصى سرعة مع وجود ونش «إدارة المرور» على مرمى حجر منشغل سائقه بشرب الشاى وغارق ضابطه فى مكالمة ما عبر هاتفه المحمول. وهذه القلة القليلة هى التى تضرب كفاً بكف وتفرك عينيها غير مصدقة حين تعايش دفاعات عرجاء من قبل مواطنين يفترض أنهم متعلمون ومتنورون ومثقفون وهم يدافعون دفاعاً مريراً عن الغلط القاتل تحت مسميات عدة تتراوح بين «جرى إيه يعنى؟» و«هىَّ جت علىَّ؟» و«إيه المشكلة يعنى؟».
المشكلة التى تنجم عن إيقاف السيارات نهاراً جهاراً صفوفاً ثانية وثالثة ورابعة مع السماح لمرور السيارات فى حارة واحدة (هذا إذا لم يقرر عفريت من عفاريت الأسفلت أن يحمل ركاباً بعرض الحارة المتبقية)، وذلك فى مقابل دفع إتاوة لأمين الشرطة تتراوح بين عشرة و20 جنيهاً، والأزمة المتولدة من عدم تواجد إدارة المرور بكثافة وتسيير السير بحماسة ورفع السيارات المخالفة بضراوة إلا فى حالة مرور الرئيس أو وزير من الوزراء، والرسالة الصادرة عن نسبة كبيرة من سائقى التاكسى الأبيض الرافضين تشغيل العداد مع رد أمين الشرطة على المستجير «وأنا أعمل إيه يعنى؟ اركب أتوبيس!»، وتقاعس ضباط قسم الشرطة عن تحرير محضر لمواطن تعرض لسرقة ثم اعتداء بالضرب من قبل سائقى سيارة «سوزوكى» مرخصة ملاكى وتعمل أجرة دون رقيب أو محاسب، وذلك «لأن المواطن لم يلتقط رقم السيارة»، والكارثة التى تنجم عن التعامى عن إلقاء القمامة فى عرض الطريق والتخلص من مخلفات الهدم على الطرق السريعة وترك معاتيه الطريق ينتحرون ويقتلون من حولهم دون أدنى شعور بالمسؤولية.. وغيرها الكثير - قادرةٌ على أن تُحوِّل «حكاية الوطن» من قصة نجاح وطن ومواطنيه إلى فشل وانتحار وطن ومواطنيه.
يقول عنوان الخبر: «مصرع 3 وإصابة 4 فى طريق صلاح سالم». ويشير المتن إلى أن ثلاثة مواطنين لقوا مصرعهم وأصيب 4 آخرون بعد انقلاب سيارة ملاكى فى شارع صلاح سالم وذلك بعدما اختلَّت عجلة القيادة فى يد السائق بسبب السرعة الزائدة. وعلى الفور انتقل رجال المرور إلى موقع الحادث وتم رفع آثاره وتسيير الطريق». تحوُّل رجال إدارة المرور من رجال مهمتهم تطبيق القانون الذى يحظر تعدى سرعات بعينها، والقيادة الجنونية، والسير عكس الطريق.. إلخ، إلى «حانوتية» بات سمة من سمات مصر.
سمات مصر الحالية تشير إلى «حكاية وطن» يتحدَّى صعاباً غير مسبوقة ويصارع الزمن لتأسيس بنية تحتية خرجت إلى النور فى زمن قياسى، حيث طرق ومدن ومشروعات.. وغيرها، لكنها تشير أيضاً إلى شعب تحوَّل معظمه إلى انتحاريين. الانتحارى ليس الذى يُفجِّر نفسه فيمن يعتبره عدواً فقط، أو الذى يُفخِّخ سيارته فيمن يعتبرهم كفاراً وزنادقة ظناً أنه حتماً ذاهب إلى الجنة وهم محترقون فى النار، لكن الانتحارى هو ذلك المتقاعس عن أداء عمله، والمتهاون فى تطبييق معايير الأمان، والضارب بالقانون عرض الحائط، والساكت على من يضرب بالقانون عرض الحائط دون توقيف أو مساءلة.
ونعود إلى القلة القليلة غير القادرة على الاندماج والتعايش مع الغالبية الانتحارية. هذه القلة ليست بالضرورة تلك القابعة على قمة الهرم الاجتماعى أو الاقتصادى، ولا هى تلك التى تلقت تعليماً فى بلاد تحترم القانون وتطبقه على الجميع حيث الحق والعدل سمة الحياة فقط، لكنها قلة شاءت السماء ألا تنجرف وراء شهوة الغوغائية أو إثارة العشوائية. وهى القلة التى لم تتجرَّع «فخفخينا» التأسلم، حيث إن العقاب فقط لمن ارتدى ملابس لا تطابق مقاييس الأيزو الخاصة بهم، أو من خطا المسجد بقدمه اليسرى، أو من لم يردد دعاء ركوب المصعد، أو من اعترض على لطع عبارة «صلى على النبى» على جدران الممتلكات العامة، أو من يشد شعره من أصوات ميكرفونات الأذان المتناحرة والصادرة عن مؤذنين يمتلكون أصواتاً تجرح الآذان وتنفر القلوب. أما ما عدا ذلك من توافه الأمور، من السير عكس الاتجاه أو القيادة الجنونية أو احتلال الرصيف أو الإفتاء فيما يضر ولا ينفع، فجميعها أمور بسيطة تافهة لا تستحق العقاب.
عقاب المصريين الدنيوى الحقيقى هو ما نعيشه اليوم، ليس من غياب القانون الضامن للحق والعدل فقط، لكن فى قبول الأغلبية - بمن فيها القائمون على تطبيق القانون - هذه الحياة وكأنها العادية الاعتيادية المعتادة. «حكاية وطن» لن تكلل بالنجاح إلا بإصلاح ما ضرب العنصر البشرى بقوة. الشعوب المتدينة لا تقبل بالغوغائية والعشوائية أسلوب حياة. والمواطنون الطيبون الغلابة لا يرتضون بالبلطجة أسلوب حياة. والقضاء النزيه والشرطة التى فى خدمة الشعب لا ينبغى أن تترك الشعب يأكل نفسه ويأكلها فى الطريق.
«حكاية وطن» لن تكتمل إلا بعودة الحق الذى خرج ولم يعد، وتطبيقه بعدل يتحدث عنه الجميع ولم يره أحد. هذه مطالب القلة القليلة غير القادرة على اعتياد الغوغائية والتعايش مع العشوائية. هو فصل مفقود فى «حكاية وطن».
نقلا عن المصري اليوم القاهرية