الهدنة فى حرب غزة أتت مفعول السحر. لم تسمح لأهل غزة بالعودة لبيوتهم لتفقّد ما جرى لها، أو لاستخراج أفراد عائلاتهم من تحت الأنقاض ودفنهم فى أماكن معلومة، أو لتناول وجبة ساخنة لأول مرة منذ أسابيع، أو لالتقاط الأنفاس للتفكر فيما هو آتٍ فقط، لكن الهدنة جعلت العالم كله يتنفس الصعداء لأول مرة منذ ما يزيد على 50 يوماً، ولو مؤقتاً.
المؤسف فى الهدنة -أى هدنة- أنها تكون أشبه بالمخدر الضعيف الذى يعطى المريض فرصة مؤقتة ليعود إلى حياته الطبيعية، لكن ما هى إلا أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو حتى سنوات حتى تعود الآلام لتهاجم المريض، وتبدأ حلقة جديدة من حلقات الهدن والحروب.
على أية حال، فإن الهدنة الحالية قبل أن تتيح الفرصة للجميع لالتقاط الأنفاس، والعودة للاهتمام بحياته وتفاصيلها التى تغاضى عنها تحت وطأة فداحة الحرب الشعواء، فإنها تستحق منا أن نوجه التحية والتقدير لأولئك الذين يجلسون فى الغرف المغلقة فى مفاوضات طويلة ومنهكة، ويروحون ويجيئون فى رحلات مكوكية تصارع الزمن من أجل الضغط على هذا الطرف تارة، وإقناع هذا الطرف تارة أخرى وهو ما يستوجب مكانة دولية وحجة إقناع من نوع خاص وقدرة على فهم عقلية ومآرب وتوازنات وثقافة وأولويات كل من الطرفين المتحاربين، وهو ما لا يتوافر لكثيرين.
هنا تفرض مصر نفسها بقدراتها وتاريخها وجغرافيتها، شاء من شاء، وأبى من أبى. دور مصر الفاعل فى هذه الحلقة من حلقات الصراع ذى الـ75 عاماً مشرف ومبهر على المستويين الشعبى والرسمى. موقف مصر السياسى الرسمى ثابت لا يحيد عن اعتناق القضية الفلسطينية، لا الاكتفاء بدعمها ببضعة مليارات هنا أو إصدار بيانات شجب وتنديد هناك، ولكن بالعقيدة والعمل على أرض الواقع. أما الموقف الشعبى، فتُكتَب فيه مجلدات ومراجع. فإذا كانت الأجيال الأكبر سناً على وعى ودراية، وعايشت حلقات من الصراع، وتضامنها وتعاطفها مفهوماً، فإن الشباب والأطفال والمراهقين، وما أبدوه من اعتناق لحق المظلوم دون رياء أو ضغط يخبرنا أن نتفاءل بما هو قادم.
فى الوقت نفسه، ينبغى أن أقول إن بعض ما تم اتخاذه من خطوات أراه مفرطاً فى الراديكالية، ومائلاً إلى إلحاق الضرر بالنفس، وذلك تأثراً بفداحة وبشاعة الحرب.
أتحدث هنا عن مقاطعة محلات ومطاعم ومنتجات تفتح بيوت آلاف الأسر فى وقت يعانى فيه الاقتصاد كثيراً. هى وسيلة سلمية للتعبير عن الغضب؟ نعم! لكنها وسيلة بدأت فى خراب بيوت أيضاً.
وهذه البيوت ليست بيوت «المستر» الداعم للمحتل، أو بيوت الكيانات الكبرى والشركات العظمى، بل بيوت العامل والموظف المصرى.
صحيح أن «المستر» قد يتضرر قليلاً، أو تتقلص هوامش أرباحه بعض الشىء، لكن ليس من المنطقى أن أدهس أبنائى فى سبيل تقليص هوامش الأرباح المليارية لهذه الكيانات.
وأظن أن عداد القتلى والمصابين فى حرب غزة قد غيّر موازين الرأى العام العالمى التى هالها ما جرى يوم 7 أكتوبر الماضى، ثم دفعها عداد القتلى لتعديل موقفها «نسبياً» وليس «كلياً».
موقف العالم من حرب غزة يستحق منا قليلاً من التفكير والتدبر وعدم الانجراف فيما يسميه الغرب «Wishful thinking»، أو «التفكير الرغبى»، بمعنى أن الشخص يفكر فيما يرغب فيه ويعتبره المنطقى والمتوقع، بينما التعامل الواقعى يحتم علينا التفكير بحكم الواقع.
رأيى الشخصى، أن من يعتقد أن العالم يصرخ متغنياً بمحبة «حماس»، فهو مخطئ. ومن يعتقد أن ساسة الغرب سينحازون لفلسطين وأهلها وحقهم ووضعهم المأساوى انحيازاً طال انتظاره، فهو مخطئ أيضاً.
ومن يظن أن التيارات اليسارية فى إسرائيل ستنحاز لفلسطين بعد حرب القطاع، فهو مخطئ أيضاً.
التفكير الرغبى سيخبرنا أن العالم سيقف على قلب رجل واحد فى أعقاب حرب القطاع ليعيد الحق للمظلومين، والأرض لأصحابها، والخير والحب والسلام للمنطقة. لكن التفكير الفعلى يخبرنا أن شيئاً من هذا لن يحدث. ما سيحدث هو «تدابير وتوافيق».
كلمة أخيرة فى ضوء الصفاء الذهنى النسبى الذى توفره الهدنة. أتمنى من كل قلبى ألا تجد مصر نفسها بعد أسابيع أو أيام ملومة أو مؤنبة مع كل ما تقدمه وقدمته وستقدمه من أجل قضية «تعتنقها» ولا تمر عليها مرور الكرام على مدار 75 عاماً.
كما أتمنى أن يُحكم البعض فى الداخل عقله فيما يختص بالمطالبات الحنجورية الفيسبوكية أو التويترية أو الإنستجرامية الافتراضية التى يتم إطلاقها فى أمسية شتاء من على مقهى، أو فى دفء الـ«ليفينج روم»، أو فى لحظة إبداع شاحط. إن أمرت أن تطاع، فأمر بما يستطاع.