«عم سعيد» اتخذ قرارًا بأن ينجب من الأبناء خمسة ومن البنات ثلاثًا. قراره لم يكن فى تحديد نوع الأجنة، أو حتى عددهم. لكنه كان قرارًا بأن تظل «الولية» تنجب إلى أن ينضُب موطِنُ الإنجاب.
وهذا شىء طبيعى. فبالإضافة لأن العيل يأتى برزقه، فإن التدخل فى مشيئة الله حرام حرام!! ولأن «عم سعيد» لم يجد ما يطعم به أبناءه وبناته فى «بنى سويف» فقد نزح إلى القاهرة قبل سنوات، ومع بلوغ كل ابن من أبنائه سن العاشرة أو الـ11 كان يتم إرساله ليستقر فى القاهرة.
وبين «صبى لحام» و«مُوصّل ملابس لدى المكوجى» و«سائق توك توك» وغيرهم، استقر «عم سعيد» خفيرًا فى فيلّا فى منطقة التجمع، واستأجر غرفة فى «عزبة الهجانة» لينام فيها الأبناء. ورغم أنه يعرف أن منهم من يمضى ليلته خارج الغرفة، لكنه يخلى مسؤوليته تمامًا بقوله: «أنا عملت اللى عليا. جبتهم للدنيا وأوجدت لهم فرصة عمل لمساعدة الأسرة».
بقية الأسرة فى بنى سويف تتلخص فى البنات اللاتى تم تزويج اثنتين منهن عرفيًا لحين بلوغهما السن القانونية، وتنتظر الثالثة الفرصة المواتية ليتم سترها. صحيح أن الابنة الكبرى وعمرها 15 عامًا ومعها طفل والثانى فى الطريق- كثيرًا ما تترك بيت زوجها وتعود إلى بيت أبيها، لكنه ينهرها بأنه زوجها؛ ليخفف عبئه لا ليثقله.
غاية القول هو أن «عم سعيد» يطلب العون والمساعدة من كل من يزور سكان الفيلا التى يحرسها. واستراتيجيته فى طلب العون تقوم على مدرستين فكريتين ثابتتين: الأولى الشحتفة والمسكنة حيث كوم اللحم المعرض للجوع والمرض.
والثانية قائمة على نظرة عميقة ذات مغزى مريع، ألا وهى «أعطنى مما أعطاك الله. ألا تستحى؟! سيارة وفيلا وملابس نظيفة وأنا فى حالة يرثى لها. ألا تخشى الحسد وتمنى زوال النعمة من الغير؟! قليل من العدالة!».
الحديث مع «عم سعيد» عن العدالة من وجهة النظر الأخرى أشبه بالحديث عن نظريتى النسبية الخاصة والعامة فى علم الفيزياء الحديثة.
طيب يا عم سعيد، أنا أيضًا اتخذت قرارى بالاكتفاء بطفلين حتى أتمكن من تربيتهما وتعليمهما بشكل يضمن لهما فرصًا مستقبلية أفضل.
وجانب من قرارى يعود أيضًا إلى حسابات منطقية خاصة بالصحة التى حتمًا ستعتل بالتشبه بالأرانب، والاقتصاد الذى سيتهاوى بكل تأكيد مع زيادة عدد المنتفعين من الراتب نفسه، والحالة النفسية والعصبية المعرضة للانفجار أو الانهيار مع تزايد أعداد الأبناء والبنات دون ضابط منطقى أو رابط عقلانى.
وزاد طين رفض استيعاب الكلام بلة الإشارة إلى مفهوم الضرائب المحصلة من المواطنين. يا عم سعيد، المواطنون الذين تُخصم من رواتبهم ودخولهم نسب مخصصة للضرائب.
هنا استيقظت قرون الاستشعار لدى «عم سعيد» وقال منتشيًا: «الغلابة لا ينتفعون من هذه الضرائب. أنا وعيالى والولية لنا حق فى هذه الضرائب. أليست هذه العدالة الاجتماعية بتاعة ثورة يناير؟».
ولأن مفهوم العدالة الاجتماعية الذى روّج له البعض فى السنوات القليلة الماضية، باعتباره اليد التى تمتد إلى جيب المقتدر لتأخذ ما فيها، وتضعه فى جيب غير المقتدر مفهوم معطوب مشروخ، فقد ذكرت له أن العدالة الاجتماعية تعمد إلى تضييق الفوارق الشاسعة بين الطبقات، ولكن هذا لا يتم عبر إفقار المقتدر من أجل إثراء الفقير، ولا تعتمد على إطلاق يد غير المقتدر لينجب دون حساب، على اعتبار أن العدالة تحتم على المقتدر أن يمول عمليات الإنجاب.
وحين شرحت لـ«عم سعيد» أننى أتوقع أن الجانب الأكبر من الضرائب التى تخصم من راتبى يذهب لتمويل قطاعات مثل الشرطة لتحمينى وتنظم مرورى وتطبق القوانين، والإطفاء والصرف الصحى وغيرها، وبناء وتحسين وصيانة الطرقات حفاظًا على أرواح المواطنين، وتمويل برامج التأمين الصحى وغيرها، لكن الواقع يشير إلى أن الجانب الأكبر يذهب لتمويل أسرة «عم سعيد» الممتدة، والتى يعمل أفرادها فى مجالات عمل هامشية غير مدرجة فى الاقتصاد الرسمى، ولا تنتفع بها الدولة لأنها غير قانونية ولا تخصم منها الضرائب... إلخ، نظر إلىّ تلك النظرة المعروفة والتى اكتسبت شعار «ما حساش بالناس»!
وكما جرت العادة فى مصر التى باتت سلفية المظهر والمتشعلقة فى تلابيب الدق على أوتار الذنب الدينى، وتصنيف البشر، باعتبارهم مؤمنين بجلابية ونقاب، وجزاك الله خيرا، وأحبك فى الله، فى مقابل المارقين، فقد دعانى «عم سعيد» للاستماع إلى مقطع للشيخ فلانى بن فلان والذى أخذ يصرخ فيه قائلاً مهددًا منذرًا: «إذا كان الدافع لتأجيل الإنجاب هو الخوف على رزق العيال ومعيشتهم، فإن ذلك يمثل اهتزازًا حقيقيا لعقيدتنا بقضاء الله وقدره، وإيماننا بسعة رزق الله وتيسير أمور الساعين فى الأرض. هذا تمرد وعصيان لإرادة الله، وتقاعس عن الإنتاج والعمل وإعمار الأرض بالعيال، وهو مذموووووم وممنوووووع».
وبالطبع كان لا بد للحديث أن ينتهى ولليل ألا ينجلى..!
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع