بقلم - أمينة خيري
رغم كل ما يمر به العالم من تحولات كبرى، وما تخضع له المنطقة من قلاقل ونزاعات ما أنزل الله بها من سلطان، ورغم ما يشعر به المصريون من أعراض انسحاب مادة الأدرينالين التي ضختها أجسامهم على مدار سنوات ما بعد أحداث يناير 2011، إلا أن قليلاً من التفكر لا يضر، وكثيرًا من الحلم لا يزعج. بل إنهما يغذيان المخيخ وينشطان الذهن.
عملية تنشيط الذهن عبر الطرح الذي تقدم به وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل في الإمارات ورئيس "قمة الحكومات" المقامة في دبي محمد بن عبدالله القرقاوي تدعو إلى كثير من التفكير.
فقد طرح القرقاوي ثلاث نقاط رئيسية من شأنها أن تدفع نحو التفكر والتدبر استعدادًا لما هو قادم، وما بدأت بشائره تتضح بوضوح. القرقاوي تحدث عن تغير شبه كامل سيطرأ على مفهوم "الحكومة" في المستقبل الذي ليس هو ببعيد.
حكومة المستقبل لن تغرق في إدارة الخدمات، وترتيب الإجراءات، وتدوير عجلة الحياة اليومية تفاصيلها الدقيقة، ولكنها ستتحول إلى حكومة قيادة التغيير. ستكون حكومات المستقبل في الدول التي تنوي دخول المستقبل ولا تقاومه أو تمانعه أو تنأى بنفسها وشعوبها عن التعامل معه أقرب ما تكون إلى منصات مفتوحة. ستتوقف الحكومات عن كونها تلك الكيانات الجامدة، وتتحول إلى منصات مفتوحة تقود التغيير، وتشجع عليه، وتدعمه.
ولأن التغيير لا يأتي بقرار فوقي، أو بقانون وضعي، أو حتى بمخطط زمني، فإن السمة الثانية من سمات حكومات المستقبل القريب ستكون سمة ابتكارية تتعلق بالخيال. وهو ليس خيالًا عقيمًا يشطح دون قواعد أو يحلق دون أصول، لكنه خيال نابع من معرفة وإدراك. القرقاوي تحدث عن الخيال – حيث الابتكار والإبداع- باعتباره سلعة المستقبل الأهم. وهو السلعة التي ستضع للأشياء قيمة، وستحدث الفارق بين صاحب الخيال المبتكر المبدع وغيره. وممن يمتلك الخيال الإبداعي يمتلك اقتصاد المستقبل.
اقتصاد المستقبل لا يقف في ضفة وحيدًا أو غريبًا. فهو اقتصاد مترابط متشابك بخيوط أخرى كثيرة. لكنها خيوط ليست كتلك التي اعتدنا عليها أو جرى العرف عليها على مدار عقود. إنه ترابط قائم على مستوى جديد من انتقال الأفكار والخدمات والمعرفة بين البشر وبعضهم البعض بسبل تقنية حديثة. السبل التقنية الحديثة هي تلك المصنفة لدى أهل التكنولوجيا والعالمين ببواطن المستقبل القريب بـ"تقنيات الجيل الخامس". بمعنى آخر هي تلك النقطة الكبيرة الهائلة الجبارة غير المرئية والمسماة "إنترنت الأشياء".
أشياء كثيرة تسمعها وتراها وتندمج معها حينًا بدافع الإثارة وأخرى بدافع حب الاستطلاع ودائمًا لأن هاتفًا ما داخليًا ينبئك بأن ما يدور في أروقة "قمة الحكومات" لا يتحدث عن مستقبل لا علاقة لنا به، أو واقع لن يحدث أبدًا. إنهم يتحدثون عن الغد أو بعد غد.
وبعد غد تنهي "قمة الحكومات" أعمالها في دبي، وهي القمة التي يمكن تسميتها بقمة استشراف مستقبل الحكومات ومعها الشعوب ومعهما الكوكب الذي نعيش عليه. تنظيم محكم، ومشاركات أممية ومداخلات لا تقل أهمية عن الفعاليات الرئيسية الدائرة على المنصات، لكن الأهم من كل ذلك أن "قمة الحكومات" تنجح في تشتيت الانتباه بعيدًا عن الإهدار اليومي الذي ينعم جميعنا فيه من إغراق في الكوبري الذي لا يتحرك، وبطاقة التموين، وفوضى الشوارع، ومسألة توزيع التابلت في المدارس الثانوية، ونوعية رغيف الخبز المدعم، وجدوى إنشاء مدن جديدة، وحقيقة نظام التأمين الصحي، وتدبير ميزانية الدروس الخصوصية، وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية التي تهدر طاقاتنا الذهنية والمادية والعصبية والنفسية.
دون أدنى مبالغة "قمة الحكومات" نقطة ضوء نحو المستقبل في بحور التفاصيل الصغيرة الهادرة والمهدرة. إنها قمة القفز بعيدًا عن الحاضر.
نقلا عن مصراوي
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع