بقلم: أمينة خيرى
ماذا بعد الانفراجة السياسية حال تحققها؟ هل يكون فتح المجال دون تأهيل أو تثقيف أو تنوير؟ أم ترك الساحة لمن يملكون التأهيل حسب قناعاتهم، والتثقيف بحسب أيديولوجياتهم، والتنوير طبقاً لمقاييسهم؟ أم وضع الجميع تحت العين الفاحصة لتعديل المسار وعودة الحياة إلى طبيعتها لصالح الجميع؟
أغلب الظن أن المطلوب فى حال تفعيل الانفراجة هو مساعدة العنصر البشرى على الانتفاع منها والاستفادة من مميزاتها، على أن يكون ذلك بتعلم الصيد وليس وضع السمكة على طرف السنارة.. بمعنى آخر، نحن فى حاجة إلى التثقف السياسى والتنوير المجتمعى. نحتاج أن نتعلم أسس الحوار وقواعد النقاش، لا أن يتم تلقيننا بما يجب أن نقول فى الحوار وندلى به فى النقاش. نحتاج أن نعى ماهية النقاش، حيث قد نختلف مع بعضنا البعض دون شرط إقامة الحد على الآخر، أو تكفيره، أو اعتباره خائناً وعميلاً، أو عبداً وذليلاً. ونحتاج أن نعرف أن كلمة حوار هى طريق «رايح جاى»، لكنه طريق آمن، لا ينبغى أن يتصادم فيه المتحاورون، أو يرشق بعضهم البعض بالحجارة.
الحجارة التى يتراشقها أغلبنا على مدار السنوات الثمانى الماضية أعيتنا. وكان يكفينا ما اكتشفناه بعد كشف الغطاء وانفجار محتوياته أمام أعيننا. جماعات الإسلام السياسى التى تاجرت بالدين ودفعت الملايين وضحكت على الذقون بالذقون واستفادت من غياب الدولة بإقامة دولة موازية لها مدارسها ومستشفياتها ومساجدها ودوائر علاقاتها وجنت ثماراً وفيرة تمثلت فى قاعدة تدين لها بالولاء باعتبارها وسيطها الوحيد إلى الله؛ ملايين من الشباب والمراهقين وُلدوا فى غفلة من الزمن، حيث تعليم مهلهل ورعاية صحية هامشية وأماكن سكن عشوائية، وبالتالى مواطنون لا يشعرون بانتماء حقيقى للمكان أو الزمان؛ وآخرون استثمر فيهم الأهل بتعليم متميز لا يمت بصلة كبيرة لمصر مع إمعان فى تهميش الوطن وقيمة المواطنة، ثقافة مسيّسة لا تخدم سوى النظام والحاكم ومن حوله مع هامش حرية مصطنع يحوى معارضة مدجنة مع قدر من الذكاء السياسى سمح للقليل من الأصوات الحرة بـ«البعبعة»، ما أعطى النظام شرعية الاستمرار.
وما تفجّر فى وجوهنا على مدار السنوات الثمانى الماضية كفيل بإثبات أننا فى أمسّ الحاجة للتدريب على أدوات الديمقراطية، فبدلاً من أن نستخدمها لمبارزة بعضنا البعض، نتقن استخدامها للخروج بوطن أفضل شكلاً وموضوعاً. ضحكنا وسخرنا واستأنا حين قال الراحل اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس الأسبق مبارك، والذى شغل منصب مدير المخابرات العامة المصرية، فى حوار مع المذيعة الأمريكية الشهيرة كريستيان أمانبور فى عام 2012، إن المصريين غير جاهزين للديمقراطية بعد. اعتبرناها إساءة، وتعاملنا معها باعتبارها وسيلة لكسب الوقت واستمرار الضغط والحيلولة دون تمكين الشعب من أدوات الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن الديمقراطية عملية تعلم مستمرة لا تتوقف أو تصل مرحلة الكمال، فإنها تتطور بتطور البشر، وتتغير بتغيرهم، فإن تعلم أدواتها منذ الصغر ضرورة، فحين تربى أجيالاً على مبدأ «لا أسئلة خارج المنهج»، فهذا يعنى أننا نُخرج أصناماً جامدة ونقتل ملكات الإبداع والابتكار. وحين نتعامل مع العصر الرقمى وإمكاناته الضخمة وكأنها غير موجودة، أو كأننا قادرون على السيطرة عليه وعلى منصاته وأدواته، فهذا يعنى أننا نكذب على أنفسنا وعلى الأجيال الصغيرة وندفعها دفعاً نحو الانفصال عنا، على الأقل فكرياً. وحين نُبقى على دولة دينية موازية داخل الدولة، فإننا نلعب بالنار، ونصر على تربية الوحش فى حديقة البيت الخلفية، كما يقول المثل الشائع. الدولة الدينية الموازية -والتى مازالت ترتع فى جبنات مصر تارة فى العلن وأخرى فى الخفاء- ستستمر فى شق الصف الوطنى وزرع بذور تكفير من لا يسير على نهجها. وفى السياسة حين تعارض الحزب الدينى، فأنت لست معارضاً أختلف معه أو حتى «أمسك فى خناقه»، لكنك كافر زنديق وجب قتلك.
قتل الفرصة الذهبية المتاحة الآن فى مصر ستكون كلفته عالية جداً. الدولة مهيأة، وكذلك نحن، لإجراء عدد من الإصلاحات السياسية. آن أوان خروج الأحزاب الفاعلة إلى نور الساحة السياسية المتحضرة، حيث براح المعارضة المسئولة والبرامج المسموعة والأداءات السياسية المسئولة. وآن أوان طمأنة الشباب، كل الشباب، حتى الذين نختلف معهم ومع توجهاتهم، بأن ساحة الوطن وصدره لا يضيقان بهم، طالما كان ذلك فى حدود القانون.
كلمة أخيرة، وبينما نحتفل بالذكرى الـ46 لنصر أكتوبر العظيم، علينا أن نستحضر مشاهد استاد القاهرة فى أكتوبر عام 2012، حين احتفل الرئيس الإخوانى وسط أهله وعشيرته ومعهم قتلة الرئيس الراحل السادات صانع النصر أمام أعين المصريين. هذا الاحتفال كان نتيجة طبيعية للسكوت على وجود دولة فى داخل دولة.