بقلم : أمينة خيري
مازال الوقت مبكراً لنقد «الاختيار»، لكن فى أوقات استثنائية وبسبب دراما استثنائية يُسمَح بالمضى قدماً فى بعض من النقد بصفة استثنائية. وفى ظل ما كشف عنه العقد الماضى من تحولات وتقلبات ألمّت بالتركيبة المصرية، فإن المسلسل - وهو بعد فى أيامه الأولى- نكأ جراحاً كان ينبغى تطهيرها وتعقيمها قبل أن تلتئم على ما فيها من جراثيم منذ زمن.
زمن الأعمال الوطنية المعتمدة على الصراخ، أو الوعظ والإرشاد، أو التهديد والوعيد باستخدام كرباج الخيانة ومقصلة عدم الانتماء ولّى وأدبر. ومكونات حب الوطن القائمة على التساؤل الاستنكارى «ماشربتش من نيلها»، أو الاستفسارى «يعنى إيه كلمة وطن؟»، أو حتى التأكيد على أننا «نعيش لمصر ونموت لمصر»- لا تجذب أو تقنع الشباب بالضرورة. وعدم انجذابهم أو الفشل فى إقناعهم ليس سُبة على جبينهم، بل سُبة على جبين من تركهم عقوداً دون أن يلتفت إلى ما آلت إليه مشاعر الشباب تجاه الوطن.
مشهد العقيد الأيقونة أحمد المنسى (الفنان أمير كرارة) وهو يسأل الجنود بعد ما أيقظهم فى منتصف الليل عن سبب وجود كل منهم فى الجيش والإجابات التى تواترت أكثر من رائعة. وسر الروعة ليس فى إجابات إكليشيهية رتيبة، حيث «جئت لأحمى تراب الوطن» و«أحافظ على وحدة أراضيه» و«أصون سلامة مواطنيه»، بل فى طلب المنسى أن يتخلوا عن الإجابات سابقة التعليب التى لا تليق إلا بموضوع الإنشاء فى الصف الخامس الابتدائى. وبتواتر الإجابات بين من جاء لأداء الخدمة العسكرية لأن الحاصلين على الدبلوم فى البلد عليهم أن ينهوا الخدمة العسكرية، أو حتى لا يتم توقيفه على الطريق، أو حتى يكون حراً طليقاً فيتمكن من الهجرة، أو حتى يحصل على شهادة أداء الخدمة العسكرية بـ«قدوة حسنة» ما يؤهله لفرصة عمل جيدة.. بعد ذلك نجد أنفسنا فى مواجهة صريحة مع ما نعرفه عن ظهر قلب، ولكن لا يجاهر به أحد أمام الشاشات، وإن حدث فمقص المونتاج له بالمرصاد.
المشاهدون ابتسموا وهم يتابعون ردود الجنود الصريحة والجريئة والشجاعة عن سبب وجودهم فى المعسكر، لكنها ابتسامة فيها الكثير من الصدمة، صدمة من يواجه نفسه بحقيقة مُرّة لا يجاهر بها عادة. ويجىء رد المنسى، أن الغرض الأصلى من وجودهم هو حماية ذويهم وأصدقائهم وأحبابهم فى «نوبتجية» حماية سيقوم بها غيرهم بعد أن ينتهوا منها.
صحيح أن المفاهيم لن تغيرها جملة جاءت فى عمل درامى. لكن بداية التغيير والتعديل وضبط الزوايا، أو بالأحرى إمكانيتها، تلوح فى الأفق. ما أفسدته عقود من الإهمال والبلادة والفساد التى أدت إلى تجريف عقول وإهدار موارد ملايين الشباب، ومعها معاول هدم قيم الوطنية تحت ستار «الأوطان حفنة تراب»، وزرع سموم مفادها أن الوطنية والتدين مفهومان متضادان لا يستويان، بل يجُبُّ أحدهما الآخر، قابل للإصلاح، ولكن ليس بطريقة «داوها بالتى كانت هى الداء»!.