بقلم - أمينة خيري
فى أول مايو من العام الجارى، كتبت فى هذه المساحة تحت عنوان «وجهة سياحية ماسخة» مناشدة كل من يهمه الأمر ضرورة الإسراع فى الاستعداد لاستقبال السياحة العائدة بعد طول عناء.
يومها لم أقصد الاستعداد بضخ تماثيل قبيحة رديئة هزيلة فى الشوارع تعكس تدهورًا فى فن النحت وتقهقرًا فى الذوق العام. كما لم أرمِ إلى استقبال السياح فى المطار بفرقة حسب الله وطبل ومزمار. ولم يكن المراد «ويلكام درينك» (مشروب استقبال) إضافى أو ما شابه. ما قصدته كان الاستعداد بدرء سلبياتنا المتفاقمة وتقويم ما اعوجّ من سلوك وأخلاقيات، على الأقل لدى القطاعات المتعاملة مع السياح، وذلك لحين تطهير مواضع الفيروسات السلوكية القاتلة التى تهاجمنا أرضًا وجوًا وبحرًا.
كتبت فى حينها أن أمارات وبشائر السياحة العائدة إلى مصر تبدو واضحة، لكن العودة ستكون صعبة وبطيئة. وأشرت إلى أن «قلب السياحة وعقلها يكمن فى شعور السائح بالأمان. والأمان لا يقتصر على تعريفات فى ضوء محاربة الإرهاب ومواجهة عمليات التفجير والتفخيخ فقط، لكنها تشمل شعوره بالأمان والراحة النفسية وهو يمشى فى شارع هنا، أو يجلس فى مقهى هناك، أو يقضى يومًا فى الأهرامات أو خان الخليلى أو القاهرة القديمة أو ما شابه... والعنصر البشرى المصرى يحتاج منا وقفة سريعة وقوية. وسبب السرعة هو أن المؤشرات تؤكد أن العودة المرتقبة باتت قريبة. وأما القوة لأن ما ضرب أخلاقنا وسلوكياتنا وتصرفاتنا بلغ درجة من القوة فى التردى والتدهور ما يستدعى قوة مماثلة فى التقويم والتوعية. وإذا كانت ظاهرة العنف والتردى الأخلاقى وغيبوبة تطبيق القانون فى سنوات ما بعد ثورة يناير تصيبنا بأمراض الضغط والسكر والاكتئاب، فإن بشائر عودة السياحة وما تعنيه من إعادة بث الروح فى ملايين البيوت المصرية التى كانت تعتمد على الأعمال المرتبطة بها كمصدر لدخلها، فربما تشجعنا على النظر فى المرآة لنواجه أنفسنا بالقدر الكبير من القبح الذى أصابنا. انعدام قيم النظافة، وتبدد قواعد النظام، وتبخر أبجديات الذوق والتربية، قادرة أن تجعل من بلدنا وجهة سياحية قبيحة ماسخة».
ومع وقوع وفاة سائحين بريطانيين قبل أيام فى أحد منتجعات الغردقة الجميلة، وقعت الفأس فى الرأس. وحتى كتابة هذه الكلمات، لم يكن قد خرج تقرير الطب الشرعى بعد، لكن ما أصابنى بصدمة كان تعجل محافظة البحر الأحمر فى التصريح على الملأ بأن الوفاة طبيعية، وذلك لأن تقرير مفتش الصحة أشار إلى حدوث الوفاة نتيجة توقف مفاجئ فى عضلة القلب وفشل وظائف التنفس، ومن ثم «لا دليل على وجود شبهة جنائية»!
وجاء فى التصريح ذاته أن زوجة السائح المتوفى كذلك فارقت الحياة بعد إغماء وفشل عملية الإنعاش، وأن تقرير مفتش الصحة أثبت أن السبب توقف الدورة الدموية ووظائف التنفس لديها، ومن ثم لا توجد أى شبهة جنائية.
فرق كبير بين أن تتمنى كمواطن أن تكون الوفاة طبيعية أو قلبك يحدثك إنها طبيعية، وبين أن تكون مسؤولاً يخاطب (فى هذه الحالة) العالم بأسره، وليس مصر والمصريين فقط. وإذا كان قطاع من المصريين لأسباب تاريخية وثقافية وتعليمية يمر مرور الكرام على مثل هذه التصريحات المتعجلة غير الموثقة وغير المبرهنة مرور الكرام، فإن أبناء دول وثقافات أخرى لا يفعلون ذلك، بل يتوقفون ويمحصون ولا يدعون الأمر يمر إلا إذا كان مقنعًا مبرهنًا بالأدلة المنطقية.
المنطق وُجد فيما قالته وزيرة السياحة لـ«بى بى سى»، إذ عبرت عن تعازيها، وأنه سيجرى تشريح الجثمانين لمعرفة سبب الوفاة، وأن ذلك سيستغرق بين أسبوع وعشرة أيام، وإنه سيصدر بيان بعد الانتهاء من تقرير الطب الشرعى.
وبين المنطق المقنع والعجلة المتعجلة المستعجلة هُوّة سحيقة وسموم قاتلة ودروس يجب أن تكون مستفادة. الحديث للرأى العام فى أعقاب أو أثناء الكوارث له أصول وعلم. وكون شعوب سكتت دهورًا على حديث يهين الذكاء أو يستخف بالمنطق أو يتجاهل العقل لا يعنى أبدًا استمرار الهزل.
ما حدث فى الغردقة يمكن أن يحدث فى أى وجهة سياحية فى العالم؟ نعم. لكن التعامل مع ما حدث يجب ألا يكون بطريقة «إللى على رأسه بطحة» أو «الزمن كفيل بالنسيان» أو «أى حاجة وخلاص». ويكفى أن العديد من وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية انتهزت الفرصة وهاتك يا تقليب فى السحلب: «عشرات النزلات المعوية تحدث فى مصر بسبب مياه الشرب» «مئات حالات التسمم تحدث فى مصر بسبب قذارة الأطعمة» «ملايين حالات التحرش بالسائحات فى مصر» «حوادث مرورية يومية تزهق أرواح المصريين والسياح».
تريثوا وتمنطقوا تصحوا، لكن فى الوقت نفسه لا تناموا على الوقعة سنتين على أمل نسيانها.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع