تأخذ إسرائيل على محمل الجدّ الاستعدادات الفلسطينية لإحياء الذكرى السنوية الثانية والأربعين ليوم الأرض التي تحلّ يوم الجمعة الوشيك، تزامناً مع بدء احتفالات اليهود بعيد الفصح. وعليه التأمت حكومتها الأمنية المصغرة لبحث السيناريوات المختلفة وسبل التصدي لها، بعد أيام قليلة على تخصيص هيئة أركان الجيش مع رئيسها الجنرال غادي أيزنكوت يوماً كاملاً للقاء «كتيبة غزة» المكلفة متابعة التطورات على الحدود مع القطاع.
من المبالغ القول أن إسرائيل تخشى حقاً توجه مئات آلاف العرب نحو حدودها، سواء مع القطاع جنوباً أو الضفة الغربية شرقاً، إلّا أنها متوجسة من مفاجآت يعدها الفلسطينيون تُختزَل في صورة انتصار فلسطيني أو إحراج إسرائيلي. يحلو للمعلقين العسكريين توصيف استعدادات إسرائيل لمواجهة «مسيرات العودة» معركةً على الوعي، ويسميها آخرون معركة على الصورة، تلك التي ستلتقطها كاميرات المصورين لتخليد الحدث.
في قمعهم الانتفاضة الثانية، عام 2002، تبنى قادة جيش الاحتلال مصطلح «كيّ الوعي» (الفلسطيني)، الذي عنى بكل وضوح ومن دون مواربة إعطاء الضوء الأخضر لجيش الاحتلال، وبتعليمات بهذه الروح من رئيس الحكومة حينذاك آريئل شارون، لاستخدام جميع وسائل القمع والبطش في العملية التي سميت «الجدار الواقي» لوضع حد للانتفاضة وعمليات التفجير الاستشهادية في قلب إسرائيل. وتحققت «صورة الانتصار» بتدمير مقر الرئاسة الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
وفي الحرب على لبنان 2006، بحثت الحكومة عن «صورة انتصار» تمكنّها من إنهاء الحرب فوجدتها في الضاحية الجنوبية المدمرة، لكنها لم تقنع المعارضة التي أرغمت الحكومة على تشكيل لجنة تحقيق رسمية في نتائج الحرب، أو في غياب «صورة انتصار» حقيقية.
وفي الأسبوع الماضي، ومع إماطة اللثام عن عملية قصف «المفاعل النووي» في دير الزور السورية قبل 11 سنة، لم تكتفِ إسرائيل بنشر جميع التفاصيل عن العملية وتمجيد طيّاريها (وسط خلاف عنيف بين أقطاب الحكومة والمؤسسة الأمنية حول من يستحق النيشان على الصدر لإقراره العملية وتنفذيها)، إنما حرص الناطق العسكري على بث شريط فيديو يوثق القصف و «صور انتصار» أخرى عن العملية.
وترى إسرائيل في «مسيرات العودة» المزمعة خلخلةً لموقفها الرافض قطعاً عودة حتى لاجئ فلسطيني واحد إلى دياره. وعلى الرغم من أن لديها الجيش والعتاد لمنع دخول أي فلسطيني حدودها، حتى بثمن قتله بالرصاص الحي، إلّا أنها تعمل على منع أي محاولة اقتحام للسياج الحدودي مع القطاع كتلك التي حصلت قبل يومين.
يؤرّق إسرائيل دخول فلسطيني مسالِم يتسلح بعلَم فلسطين ليرفع على أرضها العلم مع شارة النصر. تعرف تماماً أن من شأن صورة كهذه أن تحيي من جديد قضية شطبتها من قضايا المفاوضات لحل الصراع (اللاجئين).
قبل بضع سنوات، عُرضت باللغة العبرية على المسرح المركزي في تل أبيب مسرحية الروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني تحت عنوان «عائد إلى حيفا» التي تحكي عن نزوح الفلسطينيين عام 1948 واستيلاء اليهود على بيوتهم. تظاهر عشرات الإسرائيليين يومياً قبالة المسرح وحاولوا منع عرض المسرحية لأنها تتضمن مشهدَ عودة لاجئيْن فلسطينيين إلى بيتهما في حيفا حيث تركا ابنهما رضيعاً ليلتقيا بعائلة يهودية آتية من بولندا تقيم في البيت الذي منحتها إياه الوكالة الصهيونية.
رأى المتظاهرون في هذا المشهد والحوار بين العائلتين والصراع على «الابن» شرعيةً لمناقشة ما حصل عام النكبة/ قيام إسرائيل وهم الذين لا يريدون سماع رواية غيرهم، ولا يعنيهم ما حصل، حتى مع اعتراف النقّاد أن كنفاني لم يتعاطَ مع المسألة بعداء تجاه اليهود.
لا تريد إسرائيل سماع صوت غير صوتها، ولا تريد لجيلها الحالي أن يطرق باب ما حصل مع قيام دولتهم. يعنيها أساساً أن يتعلم أبناؤها في مدارسهم عن «عودة شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب»، حتى من دون مناقشة حقيقة هذه المقولة.
إذاً، هي الصورة التي يطبعها سدنة الدولة في أذهان أبنائهم، فيخشوْن من أي صورة قد تأتي بها «مسيرات العودة» وتزعزع أركان روايتهم. جلّ ما يعني إسرائيل أن تكون «صورة انتصار» واحدة دون سواها، صورتها هي، في حربها على الوعي.
نقلاً عن الحياه اللندنية