بقلم : أسعد تلحمي
ببراءة خادعة، أو ربما تنم عن عقلية المحتل، سألت مقدمة برنامج أخباري في الإذاعة الرسمية الإسرائيلية ضابطاً كبيراً سابقاً في الجيش عن «سر» تعرض جنود «يقومون بعملهم» في «يهودا والسامرة» (الضفة الغربية المحتلة) لـ «عمليات إرهابية»، وذلك في أعقاب مقتل ضابط وجندي إسرائيليين في عملية دهس غرب مدينة جنين المحتلة. ببراءة؟ كأن الضفة الغربية جزء من تل أبيب والجنود هناك لحفظ الأمن والنظام العام.
من جهة أخرى، اتهم ضابط كبير آخر السلطة الفلسطينية وحركة «حماس» بأنهما «تحرضان» الشارع الفلسطيني على التصعيد مع اقتراب الذكرى السنوية لـ «يوم الأرض» والاحتفال الإسرائيلي الكبير المخطط له في أيار (مايو) المقبل بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، مستهجناً التحرك الفلسطيني على «قرار أميركي سيُنفّذ في القدس الغربية!».
تستهجن إسرائيل أي احتجاج للفلسطينيين على احتلالها أراضيهم منذ نصف قرن، وهي التي لم تعد تتحدث عن احتلال بقدر ما يتصارع أقطابها في ما بينهم على ضم الأراضي المحتلة إلى سيادتها مع حرمان الفلسطينيين حق التصويت، أو في أسوأ الأحوال، بالنسبة إليهم، ضم الأراضي المحتلة المقامة عليها التكتلات الاستيطانية الكبرى التي ابتلعها الجدار العنصري الفاصل.
منذ أكثر من عشر سنوات، لم يعد الاحتلال على أجندة الشارع الإسرائيلي، خصوصاً مع انحسار ما كان يعرف بـ «معسكر السلام». بات التعامل مع الأراضي المحتلة حقيقة ناجزة ليست موضع جدال، وبقي الهمّ الأساسي في تطوير المستوطنات هناك التي يرتع فيها أكثر من مليون يهودي، وحمايتهم من الفلسطينيين.
كذلك الأمر بالنسبة إلى قطاع غزة، الأكثر كثافة سكانية في العالم (340 كيلومتراً مربعاً مع أكثر من مليونيْ إنسان). مليونا إنسان محاصَرون منذ أكثر من عشر سنوات، يعيشون أزمة إنسانية: مياه الشرب (والآبار) لم تعد صالحة، التيار الكهربائي يتوافر لساعات قليلة، نقص في الأدوية وخناق مطبق. حتى المساعدات التي تقدمها «الأونروا» مهددة بالتوقف في أعقاب قرار الرئيس دونالد ترامب وقف دعم المنظمة الأممية.
أرض محتلة وأخرى محاصَرة، ونحو أربعة ملايين فلسطيني تتحكم إسرائيل بحركتهم ومصيرهم. حتى المصالحة الفلسطينية الداخلية المتعثرة رهن بموافقة إسرائيل عليها. وفوق كل هذا تطالبهم بأن يكونوا «أولاداً شاطرين ومهذبين»، لا يحتجون، لا بالسلاح ولا بالحجارة ولا حتى بالكلام. عليهم أن يقبلوا إملاءاتها بخضوع وخنوع. عليهم الصمت لقرار الرئيس ترامب نقل السفارة إلى القدس، إن لم يرغبوا في التصفيق. أما إذا فعلوا غير ذلك فإنهم إرهابيون، تجرهم القيادة إلى التصعيد والمواجهات.
يكتب البروفيسور الإسرائيلي في الفلسفة يعقوب راز عن لغة القوة: «القوة مفسِدة ومُهلكة لكنها بنظر مستخدميها ضرورية. حيث القوة، لا مجال لأن ترى الآخر وهموم الآخر. لا وقت لديك للاستماع إلى الآخر. لا وقت لترى غيرك. وللقوي دائماً مبررات لاستخدام قوته. على الضعيف أن يستبطن ذلك، وإن فعل، ربما يلتفت إليه القوي». ويضيف أن «استخدام القوة» هو الوجه الآخر للخوف، للشعور بالتهديد، وعليه فإنه حيال ذلك تنتج «حالة» و «وجهات نظر» وتُبتكر مصطلحات تبني بطريقة خادعة ومثيرة الأسوار الواقية وأسوار الانغلاق «في مواجهة أي ادعاء ليس لنا... هكذا، من طريق الاعتقاد بأننا نحن فقط المحقّون، يجنّد الاستقواء القوة. وبفعل الجبروت وقوة الأسطورة، نندفع نحو الآخر، نحو قلبه، نحو أولاده، نحو أحلامه وندمرها... الحروب تقع نتيجة رفض الاعتراف بالقصص الكثيرة في عالمنا».
هذه هي حال إسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. تعرف إسرائيل أن الوقت الآن لمصلحتها. تسارع لفرض المزيد من الحقائق على الأرض.
قد يرى سدنة الدولة العبرية في أقوال البروفيسور راز وأمثاله، بينهم أيضاً ضباط كبار سابقون، مجرد نبوءات غضب، لكنها ليست كذلك. تعرف إسرائيل انه عندما تزيد النار تحت «وعاء ضغط» فإنها ترفع من سخونة مياهه وتحرك غطاؤه»، لكن لن يكون في وسع جنودها إعادة غطاء الوعاء في كل مرة تحاول المياه التدفق خارجه، وقد ينفجر الوعاء، وعندها ستطاول مياهه الساخنة والنيران تحتها أهداب إسرائيل أيضاً التي قد ترد نيران أشد سخونة، لكن في السطر الأخير ستتيقن أن للقوة حدوداً...
نقلاً عن الحياة اللندنية