بقلم - عزمي عاشور
الحرية في مفهومها المطلق قد تحمل اعتداءً كبيراً على حريات الآخرين، كما أن التطرف في استخدام الحق قد يؤدي إلى ضياعه. وتظهر، من وقت إلى آخر، أحداث تبرز هذه الظواهر على السطح، منها منع فرنسا ارتداء البوركيني على شواطئها، والذي تبعه إصدار مجلس الدولة الفرنسي حكماً بوقف قرار المنع. وكذلك حظر النمسا ارتداء النقاب في الأماكن العامة. وهناك أمثلة أخرى على النوعية ذاتها من الممارسات التي تظهر التضاد والصدام ما بين الحرية في ممارسة الحق والقوانين التي تحافظ على النظام العام.
وهذه الوقائع تعكس حالة من النفور من كل ما هو إسلامي بسبب الحوادث الإرهابية البشعة التي ارتكبها مسلمون في قلب عواصم الحضارة الغربية كباريس وبروكسل على مدار السنوات الماضية. والسؤال، هل هذا مبرر لتطرف مضاد، سواء في إساءة استخدام الحرية أو التعمد في إبراز الرمزية الدينية؟ فالضحية هنا هي الحرية كقيمة وما يتبعها من خلق ثقافة لممارسة الحقوق في شكل طبيعي والحفاظ عليها.
وقضيتا النقاب والبوركيني إذا كانتا ظهرتا في المجتمعات الأوروبية في هذا الشكل المفتعل فإنهما تعكسان مع غيرهما من القضايا المتشابهة في شكل كبير ما يحدث في المجتمعات العربية من جدل مع منظومة قيم الحرية وما يرتبط بها من حقوق، والتي لم يتم حسم التعاطي معها بعد، خصوصاً مع تسيد ثقافة الرمز الديني وإعطائها الأولوية في الطغيان على الحقوق، والأمثلة كثيرة كان أبرزها إصدار محكمة الإسكندرية للقضاء الإداري في العام 2016 حكماً عكسَ هذا الخلط ما بين الحقوق في نطاقيها العام والخاص، بإغلاق قاعة أفراح كانت قريبة من مسجد لتشويشها على المصلّين. وأهمية هذا الحكم لا تظهر في إنصافه المسجد في حد ذاته وإنما في قيمة عدم التعدي على الآخرين وهم يؤدون عبادتهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. كما تأتي أهمية هذا الحكم من أنه يصدر في مجتمعات أصبح فيها الجهل بمعنى الحرية سمة عامة يتم باسمها التعدي على حقوق الآخرين سواء مادياً أو معنوياً.
ويمكن القياس على هذا الحكم في حالات كثيرة كمثال لاستخدام المجال العام الذي يبدأ من حيث تنتهي حقوقك أنت بالتعدي على الآخرين. فمن منا لا يتأذى من الشارع الذي يحتل رصيفَه أربابُ المحلات أو مِن القمامة التي تُترك عنوة فيه، أو من السلوك الوحشي لقائدي المركبات في الطرق العامة؟ أليس في هذه الحالات اعتداء ينطلق من الخاص إلى العام؟
وماذا عن الانتهاك المرتبط بثقافة التدين التي يساء استخدامها بمنطق إساءة استخدام قيمة الحرية؟ فمثلما انتصرت محكمة القضاء الإداري بغلق صالة أفراح لقربها من مكان للعبادة، فإن السؤال، ما هو موقفها من الميكروفونات التي ترفع من الزوايا والمساجد وعلى مسافات متقاربة تتبارى في إقامة الصلوات وإلقاء الخطب من دون مراعاة لحرمة الناس ومشاعرهم في بيوتهم ومحالهم، ويمكن أن يكون من بينهم مرضى ومَن ينشدون الهدوء، ومن هم على ديانة أخرى؟ وهل المطلوب من الذي يؤدي صلاته في هذا الشكل الفولكلوري أن يوقف حال الآخرين ليرهبهم ويعلمهم بأنه يؤديها. أماكن العبادة هذه، أليست هي المسؤولة في شكل ما عن إفراز الخطاب المتطرف؟ وأليست هي المسؤولة في هذا الشكل عن انتهاك حرمة الآخرين بإزعاجهم وإرهابهم وهم في منازلهم؟ الحقوق هنا لا تتجزأ، فمثلما لا يرضى أحد بالتشويش على أماكن العبادة، فإن في المقابل يجب أن تلتزم هذه الأماكن بالمبدأ نفسه، فكونك تؤدي الصلاة ليس مدعاة لأن تنتهك حقوق الآخرين.
مثل هذه الأحكام ذات أهمية لكونها تناقش فلسفة الحقوق التي اختصرها المجتمع بما يمليه عليه من يفتون ما بين مسارين: إما الحرام أو الحلال، فباسم الأول كم من حقوق تُنتهك وباسم الثاني كم من حقوق تضيع، وكم هناك من العنصرية التي يتعامل بها هؤلاء مع من يرونهم وفقاً لعقيدتهم أو للفتاوى التي يتبعونها؟
فكرة القانون في ذاتها هي طريقة للتهذيب ووضع حدود ما بين حقوق الفرد وغيره وحقوق المجتمع أو الدولة كما جاء في العقد الاجتماعي. وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون القانون عادلاً بالمطلق، بل أحياناً في سبيل تطبيق القاعدة القانونية يُظلم أفراد، وأبرز الأمثلة على ذلك قانون التظاهر في مصر الذي صدر عقب سقوط حكم جماعة «الإخوان»، بهدف منع التظاهرات التي كانت تلك الجماعة تحرض عليها ضحايا، وفق مخطط كانوا يقومون فيه بإفشال الحكم الجديد في سبيل عودة رئيسهم، فكان طبيعياً أن يطبق القانون على الجميع بمن فيهم شباب من الثورة لم يرتكبوا عنفاً ولا تخريباً، فسجنوا «ظلماً» تنفيذاً للقانون. كما يجب التمييز ما بين الأحكام التي تصدر بناء على تنفيذ القانون وبين القانون نفسه، فالأحكام في مجملها قد تصدر لمخالفة القانون، وأيضاً تظهر تفصيل الحقوق ومتى تبدأ ومتى تنتهي. والنهضة المجتمعية معيارها الأساسي فهم هذه الحقيقة وإدراكها في تفاعلات البشر في ما بينهم داخل المجتمع ومع مؤسسات الدولة التي يعيشون فيها. أما تمييع فكرة القانون بقصرها على الشكل السياسي فقط فيقتل جوهر الحقوق.
* كاتب مصري
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع