بقلم - عزمي عاشور
أيهما أسبق في الظهور: الليبرالية أم الديموقراطية؟ الليبرالية ارتبطت كقيم وأفكار بالحداثة وعصر التنوير في القرن السادس عشر الميلادي، وهي هنا تسبق الديموقراطية بقرون ثلاثة؛ إذ إنها مورست تدريجاً في القرن التاسع عشر. فضلاً على أن الديموقراطية تنتمي إلى ما يشبه الإجراءات والقواعد التى يتم اتباعها.
أما الليبرالية فتمثل الثقافة والسلوك وطريقة التفكير، فهي التي أحدثت النقلة الكبيرة في الثورات العلمية بدءاً من فلاسفة التنوير بتغير الكثير من المعتقدات التي كانت تسيطر على العقل من مركزية الأرض للكون وغيرها بناء على المعتقد الديني؛ ما قاد إلى سلطة وسيادة العقل وانعزاله عن هيمنة هذا المعتقد. وعندما تطورت الديموقراطية في ما يشبه اللوائح المنظمة الحكمَ، فهي كانت إحدى الوسائل التي تُهذّب وتُرشّد من هيمنة التسلط السياسي، فلم تكن مرادفة لليبرالية بقدر ما أنها أداة تبرز أحد ملامح هذه القيمة. ففي الوقت الذي بدأت تنتشر أفكار التنوير والنهضة والتحديث في العالم، كان التسلط السياسي، هو المهيمن على العالم؛ من منطلق أن الحكم والسياسة مرتبطان بالقوة. ولكن مع التأثير الكبير الذي أحدثته أفكار النهضة والتنوير في المجتمعات كان لا بد أن تطول أدوات الحكم والتي بدورها تطورت عقب الثورتين الأميركية ودستورها والفرنسية بمبادئها؛ في نهايات القرن الثامن عشر. وهذه الثورات بالقفزة الكبيرة في نقد التسلط السياسي كانت نتيجة طبيعية لفلاسفة العقد الاجتماعي الذين درسوا السلطة السياسية في شكل مجرد ووجدوا أن تحييدها في شكل القوانين واللوائح والمؤسسات هو أفضل طريق لتحقيق العدالة ما بين البشر من الناحية السياسية. وكان هذا هو التطور الذي حاولت المجتمعات الغربية غرسه على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. وإذا كانت الديموقراطية كإحدى وسائل الحكم بتطبيقها تحقق أفضل ما هو متاح من العدالة السياسية، فإن ما حدث بعد ذلك في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين برهنَ على وجود عامل لا يقل أهمية عن الديموقراطية؛ وهو أن التنمية أيضاً هي أفضل ما هو متاح الآن لتحقيق العدالة بين البشر. وحبذا لو اجتمعتا، فإن العدالة قد تصل إلى الشكل المقبول والمعقول. والدول حديثة العهد بالديموقراطية والتنمية بعد سنوات من خضوعها للاستعمار الأوروبي، كانت هي خير من مرّ بتجارب التنمية سواء في ظل حكم ديموقراطي أو في ظل سلطة غير ديموقراطية. ولكن، هنالك إشكالية لأيهما الأولوية الديموقراطية أم التنمية؟ فعلى خلفية ما حدث عقب استقلال الكثير من الدول في العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية عندما أعطى الحكام الوطنيون أولوية للتنمية في بدايات حكمهم استبدوا وفشلوا وحدثت انقلابات عسكرية. وهو الأمر الذي شوّه مدخل التنمية رغم أهميته وأولويته، ولكن هناك عوامل أخرى أدت إلى فشل هذا المدخل، أبرزها أن سياق الخمسينات والستينات من القرن الماضي لم يسمح بنجاح هذه النماذج الوطنية للتنمية في ظل الحرب الباردة.
ومع العقدين الأخيرين من القرن الماضي وبدايات الحالي، استطاعت دول شرق آسيا والصين أن تقدم تجارب مختلفة أثبتت فيها أن السياسة والحكم من الممكن أن يكون مدخلهما أيضاً التنمية والنهضة الاقتصادية وليس الديموقراطية فقط. فالصين الآن رغم أنه يحكمها حزب شيوعي، تتسيّد الاقتصاد العالمي مع الولايات المتحدة الأميركية، بل مرشحة لتكون القوة الأولى في العالم مع تراجع قوة الأخيرة اقتصادياً. وتبرهن هذه التطورات على أن الحقيقة لها أوجه أخرى غير التي اعتدنا أن نرددها.
فماذا عن عالمنا العربي؟ مع بداية ثورات «الربيع العربي»، عُقدت المقارنة بين تونس ومصر لجهة أن الحراك فيهما كان سلمياً؛ على عكس ما حدث في دول عربية أخرى، فضلاً عن أنهما شهدتا عملية انتخابات ديموقراطية، سواء نيابية أو رئاسية. ويرى السياسيون والمتمسكون بنظرية الديموقراطية أن تونس تجربتها حملت الاستمرارية على عكس مصر التى حدث فيها تراجع من وجهة نظرهم. والآن بعد السنوات السبع مع تداول السلطة في تونس، هناك ما يشبه الأزمة الاقتصادية، فالاحتياطي النقدي لا يغطي غير 80 يوماً فقط على عكس مصر التي كانت على حافة الإفلاس في عام 2013 واستطاعت أن تخرج جزئياً من هذه الأزمات بقرارات جريئة، منها تحرير سعر الصرف وتحفيز التشغيل داخل الاقتصاد بالمشروعات القومية الكبيرة، والتخلي عن الدعم الذي يستهلك جزءاً كبيراً من الموازنة. هذا عكس ما حدث في تونس التى انتشرت فيها التظاهرات بمجرد رفع أسعار بعض السلع. وساعد على النجاح في مصر وجود مظلة اجتماعية تبرز أهميتها بأنها مقننة سواء في حصص التموين التي تقدمها الدولة لأصحاب الدخول المنخفضة أو المنعدمة أو في الرعاية الاجتماعية للأسر الفقيرة ولكبار السن، وأخيراً إدخال العمالة الموسمية تحت مظلة التأمين. هذه سياسات ترتبط بمدخل التنمية، والنتيجة أن الاحتياط النقدي قفز إلى ما يقرب من 45 بليون دولار بعد أن كان انخفض إلى 13 بليون دولار. والسؤال هنا: أيهما له الأولوية: الديموقراطية على الطريقة التونسية أم الحكم بالتنمية على الطريقة المصرية؟ مع العلم أن ما يميز الدولة المصرية هو وجود المؤسسات وثقلها، وما يميز تونس هو أن الإسلاميين لم يخرجوا من المعادلة وأن الاضطرابات والتظاهرات غير محظورة.
المصدر : جريدة الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع