بقلم - رندة تقي الدين
موقف فرنسا مما يحصل حاليا في الجزائر ملفت من حيث التحفظ والسكوت ازاء الغضب الشعبي لترشيح بوتفليقة، في حين ان الوسط السياسي المسؤول يتابع عن كثب ما يجري، فالطبقة السياسية في فرنسا وفي الطليعة رئيسها ايمانويل ماكرون على علم بتفاصيل الوضع الصحي للرئيس الجزائري الذي تم ترشيحه لفترة رئاسية خامسة وهو موجود في جنيف للعلاج. والكل يعرف ان بوتفليقة لم يعد يستطيع ان يحكم بسبب تدهور حاله الصحية، وهو ليس فقط مقعداً لكنه لا يلتقي أحداً من زوار البلد ولا يمكنه الظهور أمام شعبه.
والكل مدرك ايضا ان من يحكم الجزائر حاليا شلة تسميها الاوساط الجزائرية بانها «المافيا السياسية المالية» مع بضعة عسكريين ليسوا من العسكريين القدامى الذين أحالهم بوتفليقة حين تسلم الرئاسة على التقاعد. وهذه الشلة من العسكريين ورجال الأعمال تلعب دوراً سياسياً مع شقيق بوتفليقة سعيد وهي لم تتمكن من الاتفاق على مرشح آخر، ما ادى الى غضب الشعب المطالب بنهاية نظام فاسد لم يعط للشباب الجزائري فرص عمل او مستقبل واعد في بلد غني هدرت ثروته لمصلحة هذه الشلة.
والرئيس الفرنسي الذي يتابع عن كثب الوضع الجزائري طلب من سفيره في الجزائر ان يأتي الى باريس لوضعه في صورة الوضع. ويعتبر والسفير الفرنسي في الجزائر من الدبلوماسيين القلائل الذين عينوا مرة ثانية في ذلك البلد. وسبب تحفظ فرنسا وحذرها من اي تصريح يشير الى تدخل معين هو التاريخ بين البلدين الذي جعل العلاقة الفرنسية الجزائرية بالغة الحساسية، فكثيراً ما يتهم الجزائريين سلطة وشعباً فرنسا بانها اساس عدد من مشاكلهم، كما ان يسود في الجزائر منطق المؤامرة الآتية من فرنسا تجاه الكثير مما يحصل او حتى في التعيينات. فأي تدخل فرنسي تجاه التظاهرات الحالية سيكون بمثابة «مؤامرة فرنسية».
واقع الحال ان استقرار الجزائر هو اولوية للمسؤولين الفرنسيين لكون الجزائر بلداً جاراً لفرنسا، واذا حدث زعزعة في الاستقرار فهناك الملايين من الجزائريين المستعدين للقدوم الى فرنسا. ولنتذكر الزيارة الاولى التي قام بها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الى صديقه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بعد الهزة الارضية التي ضربت الجزائر، كانت هتافات الشعب الجزائري الى شيراك عندما جال مع بوتفليقة في حي باب الواد «شيراك فيزا فيزا» أي صرخة لطلب تأشيرات إلى فرنسا.
تربط الجزائر بفرنسا علاقة حب وكراهية، فالشعب الجزائري يشكك بكل نوايا الفرنسيين، لكنه اول ما يطمح اليه هو زيارة فرنسا وقراءة الصحف الفرنسية ومشاهدة محطات التلفزيون الفرنسي وتناول الطعام الفرنسي والاجبان الفرنسية، حتى انهم الآن اصبحوا يتطلعون الى تظاهرات السترات الصفر في فرنسا ويستوحون منها. وشك أن استقرار الجزائر اساسي لفرنسا، لكن باريس مدركة ان العسكر الجزائري شريك اساسي معها في مكافحة الارهاب في مالي والنيجر وليبيا. وفرنسا مهتمة بالحفاظ على العلاقة الثنائية مع جارتها، فالجزائر مزود مهم لفرنسا بالغاز الطبيعي كما أنها تشتري الكثير من فرنسا. واهم من ذلك كله التخوف الفرنسي من الاسلاميين المتطرفين الذين تم «تخديرهم» عندما تسلم بوتفليقة الرئاسة واجرى ما يسمى بالمصالحة الوطنية، فبإمكان هؤلاء أن يلتحقوا بتحرك الشباب والاستفادة منه للتخريب وزعزعة الاستقرار. هناك في فرنسا أكثر من مليوني فرنسي من اصل جزائري من اجيال مختلفة، والجالية التي اندمجت كلياً في المجتمع الفرنسي تتابع وتهتم بما يجري في بلدها الأصلي. الأخطر أن هنالك ارهابيين ارتكبوا عمليات وحشية في فرنسا باسم الاسلام غالبيتهم من شمال أفريقيا (جزائريون ومغاربة وتونسيون). ولا شك أن أوضاعاً غير مستقرة في الجزائر هي في مصلحة الارهاب المتطرف. هذا الهاجس يبقى في أذهان الطبقة الفرنسية الحاكمة التي لا تتمنى الفوضى للجزائر.
لكن العسكريين (والشلة) في السلطة الجزائرية أصروا على ترشيح بوتفليقة حماية لمصالحهم، في حين أنه كان ممكناً تخطي الخلافات للاتفاق على مرشح أكثر اقناعاً لشعب مستاء من شبح بوتفليقة الذي جعل المتظاهرين يثورون على النظام، لأنهم مدركون أنه هو الحاكم وليس بوتفليقة المريض.
الوضع الجزائري اليوم هو أولوية لفرنسا.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع