بقلم : حسن نافعة
بدأ العد التنازلي لحدثين كبيرين شبه متزامنين سيكون لهما ما بعدهما، الأول يتعلق بمصير الاتفاق المبرم حول برنامج إيران النووي، والثاني يتعلق بمصير القضية الفلسطينية. ففي 12 أيار (مايو) الجاري تنتهي المهلة التي كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب حدّدها لنفسه لاتخاذ قرار نهائي بشأن الاتفاق المبرم بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا حول برنامجها النووي (قبل أن يقدم موعد الإعلان الى يوم أمس في الثامن من أيار)، الأمر الذي يفرض أن يفصح قبل حلول هذا الموعد عما إذا كانت الولايات المتحدة ستظل طرفاً في هذا الاتفاق أم ستنسحب منه، وحتى كتابة هذه السطور كان معظم التقديرات يشير إلى أن قرار الانسحاب هو الأرجح.
وفي 14 من الشهر نفسه سيتم رسمياً نقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس التي سبق أن اعترفت بها الولايات المتحدة عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل اليهودية، وذلك في احتفال مهيب تم اختيار توقيته بعناية ليتواكب مع الذكرى السبعين لما تسميه إسرائيل «عيد الاستقلال الوطني» ويسميه العرب «ذكرى النكبة»، وتردد أن ترامب كان سيشارك بنفسه في هذا الاحتفال الى أن أعلن امتناعه عن الحضور.
توجد علاقة عضوية تربط بين الحدثين، رغم اختلاف السياق والملابسات. فانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق سيضعها في مواجهة مباشرة مع إيران، ليس من المستبعد أن تتطور إلى صدام مسلح، أما نقل الولايات المتحدة سفارتها في إسرائيل إلى القدس فسيضعها في مواجهة مع الشعب الفلسطيني الأعزل، وفي مواجهة كلامية مع الدول العربية والإسلامية التي سبق لها رفض القرار الأميركي واعتباره منعدماً وباطلاً. ومع ذلك، فسوف تؤدي هذه الخطوة إلى وضع العالم العربي كله، شعوباً وحكومات، أمام أمر واقع جديد، خصوصاً أنها خطوة تعكس تصميم ترامب على تصفية القضية الفلسطينية عبر «صفقة القرن» التي يعكف على إعدادها بنفسه ولم يتم الإعلان عن تفاصيلها بعد. ولأن الولايات المتحدة هي الطرف المبادر بتفجير هذين الحدثين، فمن الطبيعي أن تتداخل بشدة دوائر التفاعلات الناجمة عنهما إلى الدرجة التي تدفع إلى الاعتقاد بأنهما يكادان يشكلان وجهين لعملة واحدة.
انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق البرنامج النووي سيعرض إيران لمخاطر جمة وسيفرض عليها تحديات كثيرة، غير أنه سيتيح أمامها في الوقت نفسه فرصاً جديدة قد تمكنها من استعراض عضلاتها والظهور بمظهر القوة الإقليمية التي تملك أوراقاً حقيقية قادرة على الفعل والتأثير، أما نقل السفارة الأميركية إلى القدس فسيكون على الأرجح حدثاً كاشفاً عمق الهوة التي سقط فيها العالم العربي وقد يساعد على تعميق الانقسامات داخل صفوفه بصورة أكبر، الأمر الذي سيترتب عليه حتماً مزيد من الخلل في موازين القوى الإقليمية قد يصب في النهاية في مصلحة إيران. صحيح أن قرار الانسحاب لم يتخذ بعد، وصحيح أيضاً أنه يصعب التنبؤ بسلوك ترامب، والذي قد يغير رأيه في اللحظة الأخيرة، إلا أن غالبية التوقعات ترجح انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وهو ما يفسر القلق العميق الذي ينتاب معظم القوى العالمية، ما قد تفضي إليه هذه الخطوة من زعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة، وربما في العالم بأسره، والذي دفع بكبار القادة الأوروبيين إلى التعجيل بتكثيف الاتصالات مع إدارة ترامب في محاولة أخيرة للبحث عن مخرج معقول ومقبول.
كان لافتاً للنظر في هذا السياق حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إعلان تفهمه ما تعتقد إدارة ترامب أنه ثغرات في الاتفاق المبرم مع إيران، بخاصة ما يتعلق منها بقصر الفترة الزمنية التي يغطيها وخلوه من أي قيود تحد من قدرة إيران على تطوير برنامجها الصاروخي أو تضع سقفاً لطموحاتها الإقليمية، ومن هنا اقتراحه الدخول مع إيران في مفاوضات جديدة تستهدف التوصل إلى اتفاق تكميلي منفصل يعالج هذه الثغرات، وليس اتفاقاً بديلاً. غير أن ترامب أصرّ في ما يبدو على التمسك بموقفه، انطلاقاً من قناعته بأن الدخول في مفاوضات جديدة مع إيران حول اتفاق تكميلي، سيتيح أمامها فرصة ثمينة للتلاعب بالدول الأطراف وكسب الوقت بعد أن تكون قد ضمنت التزام واشنطن بنود الاتفاق المبرم خلال مرحلة التفاوض، ومن هنا حرصه على التمسك بخيار الانسحاب. ومن الواضح أن ترامب لم يعد يبالي بكل ما يقال له عن العواقب التي قد تترتب على الانسحاب من الاتفاق، كاهتزاز ثقة العالم كله في الولايات المتحدة، بإظهارها بمظهر الدولة التي لا تحترم التزاماتها التعاقدية، واتساع الفجوة بينها وبين حلفائها الأوروبيين، إضافة إلى فقدان الثقة تماماً في الآلية الدولية الوحيدة المتاحة حتى الآن للحد من انتشار الأسلحة النووية، الأمر الذي قد يعرضها للانهيار التام. لذا، تثور تساؤلات كثيرة حول حقيقة الأسباب التي تدفع ترامب إلى الإصرار على قرار الانسحاب، والتي لا تخرج في تقديري عن ثلاث: السبب الأول: يتعلق بالرغبة في استخدام إيران كفزاعة وكأداة للضغط تتيح لترامب فرصة طالما انتظرها لاستنزاف ثروات دول الخليج العربي. ومن الواضح أن ترامب، والذي يشعر بكراهية عميقة ليس فقط تجاه النظام الإيراني وإنما أيضاً تجاه العرب والمسلمين كافة، وصل إلى قناعة مفادها أن للولايات المتحدة مصلحة مؤكدة في استغلال حاجة دول الخليج العربي للحماية والأمن من أجل الحصول على ما يحتاجه من أموال لتجديد البنية التحتية المتهالكة وإعادة تنشيط الاقتصاد الأميركي وفق رؤيته التي يختزلها شعار»أميركا أولاً».
السبب الثاني: إحساس ترامب العميق بالمسؤولية عن حماية أمن إسرائيل وحرصه الشديد على تهدئة المخاوف الإسرائيلية من اقتراب قوات الحرس الثوري الإيراني من حدودها مع سورية، وأيضاً من احتمال تمكن النظام الإيراني الأصولي من استيعاب ما يكفي من المعارف العلمية والتكنولوجية لتصنيع السلاح النووي مستقبلاً. ولأن ترامب يتعامل مع قضية الأمن الإسرائيلي من منظور «صهيو مسيحي» يرى في دعم إسرائيل الكبرى التزاماً دينياً، فمن الواضح تماماً أنه لن يسمح بأي تهديد جدي لأمن إسرائيل، حتى لو اضطر لخوض الحرب ضد إيران، وهو ما تسعى إليه إسرائيل مستخدمة في سبيل الوصول إلى هدفها الطرق المشروعة كافة وغير المشروعة.
السبب الثالث: السعي الدؤوب إلى استغلال المخاوف الخليجية والإسرائيلية المشتركة من توسع النفوذ الإيراني في المنطقة والعمل على توظيف هذه المخاوف لإحداث أكبر قدر ممكن من التقارب بين دول الخليج العربي وإسرائيل، خصوصاً أن هذا التقارب يساعد على توليد ضغوط على الفلسطينيين لحملهم على تقديم التنازلات اللازمة لتمرير «صفقة القرن». وربما يفسر هذا البعد تحديداً سر إقدام ترامب بالذات على اتخاذ قرارات القدس البالغة الحساسية، والتي لم يجرؤ على اتخاذها كل من سبقوه من الرؤساء الأميركيين رغم وعودهم الانتخابية. المذهل هو أنه أقدم على اتخاذ هذه القرارات، رغم حساسيتها البالغة، قبل أن يضمن حداً أدنى من التوافق حول «صفقة القرن»، ومن دون أي خشية من ردود أفعال معاكسة من جانب الدول العربية قد تحد من فرص تمرير هذه الصفقة. لا يخالجني أي شك في أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، بالتزامن مع نقل سفارتها إلى القدس، سيدشن مرحلة جديدة يصعب التنبؤ بكل ما تنطوي عليه من مخاطر على الصعيدين الإقليمي والعالمي. صحيح أن هذا الانسحاب قد لا يعني بالضرورة نشوب حرب فورية بين الولايات المتحدة وإيران، لكنه قد يخلق أوضاعاً إقليمية ربما تصعب السيطرة عليها. ولأنني على يقين من أن إسرائيل لن تفوت الفرصة المتاحة أمامها للعمل على إنهاء الوجود العسكري الإيراني في سورية، الأمر الذي ستتصدى له إيران بشدة باعتباره مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، فإنني لا أستبعد أن يكون الانسحاب الأميركي المنفرد هو بداية العد التنازلي لحرب بين إسرائيل وإيران؛ أظن أنها باتت حتمية. صحيح أن هذا العد التنازلي للحرب سيستغرق وقتاً، قد يمتد لشهور طويلة قادمة، لكن الوصول إلى نقطة الانفجار أو الاشتعال آت لا محالة. الشيء المؤكد أن الولايات المتحدة لن تسمح بخروج إسرائيل خاسرة من هذه الحرب، وأن الدول العربية ستكون هي المرشح الأكبر لتحمل فاتورتها الثقيلة، ليس في المال فقط وإنما في الدم أيضاً. فهل بوسع الدول العربية التي تهيئ نفسها وشعوبها للانحياز إلى جانب إسرائيل في حربها القادمة على دول الخليج العربية مع إيران أن تراجع حساباتها قبل فوات الأوان، أم أن الأوان قد فات بالفعل؟
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع