بقلم - حسن نافعة
يدرك الجميع الآن أن دونالد ترامب لم يعد فقط شخصية مثيرة للجدل، وإنما يشكل أيضاً خطراً على النظام العالمي. ولأنني لم أسمع عن هذا الرجل إلا إبّان حملة انتخابات الرئاسة الأميركية التي حرصت على متابعتها قدر الإمكان، فلم تتكشف لي بعض أبعاد شخصيته المثيرة إلا من خلال التصريحات التي أدلى بها أثناء تلك الحملة، الأمر الذي دفعني إلى كتابة سلسلة من المقالات نُشرت تباعاً عقب الإعلان رسمياً عن فوزه، حاولتُ فيها لفت الانتباه إلى مغزى وخطورة تربع رجل من هذا النوع على قمة هرم السلطة في أقوى دولة في العالم، وحذرتُ مِن مغبة المراهنة عليه، خصوصاً مِن جانب القادة والزعماء العرب. كان عنوان المقالة الأولى «نظام عالمي جديد يقوده متعصب أميركي» نُشرت في 23/11/2016، أما عنوان الثانية فكان «ترامب سيسقط حتماً ونشرت في 1/2/2017، والثالثة والأخيرة «قراءة في مخاطر وتناقضات سياسة ترامب الخارجية» (1/3/2017). ولم أتردد في وصف ترامب في إحدى هذه المقالات بأنه «رجل قد يصلح للقيام بدور مهرج في سيرك أو لاعب مفتول العضلات في مباراة للمصارعة الحرة، لكني لا أستطيع مطلقاً أن أتصوره سيداً للبيت الأبيض ورئيساً لأقوى دولة عرفها التاريخ».
وقتها تصوّر البعض أنني تعجّلت في إصدار حكم قاس على رجل لم يُختبَر بعد، ورأى أن الحكمة تقتضي التريث، لأن التصريحات والمواقف الانتخابية لا تكفي وحدها معياراً للحكم النهائي عليه. لكن ما إن فرغتُ من قراءة كتاب مايكل وولف، الذي صدر منذ أيام، تحت عنوان: «النار والغضب: داخل بيت ترامب الأبيض»، حتى تبيّن لي أن الصورة التي انطبعت آنذاك في ذهني عن شخصية ترامب تبدو الآن أقل قبحاً بكثير من تلك التي رسمها وولف الذي يشير في مقدمته إلى أنه كان يستهدف في البداية تقديم كشف حساب عن المئة يوم الأولى، إلا أن التخبط الذي أصاب إدارة ترامب منذ اللحظة الأولى لتنصيبها دفعه إلى توسيع نطاق بحثه الاستقصائي كي يتمكن من رسم صورة متكاملة لشخصية الرئيس الجديد. كما أكد وولف أن كتابه هو محصلة لأكثر من 200 مقابلة، جرت خلالها حوارات مطوّلة مع شخصيات كثيرة، بينها ترامب نفسه ومعظم كبار موظفيه، واستغرق الإعداد لها ما يقرب من 18 شهراً. شخصية ترامب، كما تتجلى في ثنايا كتاب وولف، والذي هو الآن الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة وربما في العالم، تبدو شديدة القتامة. فهذه الشخصية تبدو، في بُعدها وسماتها الخاصة، شخصية «سيكوباتية» شديدة النرجسية، لديها شعور مفرط بالقدرة على الإنجاز في كل عمل تتولاه، وليس لديها قابلية للتأثر بنصائح الآخرين أو الانصياع إلى ما قد يبدونه من آراء ووجهات نظر، حتى ولو صدرت عن أكثر الخبراء تخصصاً وإلماماً بالجوانب الفنية للقضايا المطروحة على بساط البحث.
هذا الولع الجنوني بالذات يبدو غير مبرر على الإطلاق، خصوصاً إذا قابلناه بالجانب الآخر من شخصية ترامب الذي ينفر بطبيعته من القراءة والاطلاع، ولا يهتم بالغوص في العمق أو بالبحث في التفاصيل، فضلاً عن أنه رجل متقلب المزاج، يصعب التنبؤ بردود أفعاله، وكثيراً ما يتخذ قراراته في ضوء ما يسمع مِن آخر شخص يلتقيه. فإذا نحينا جانباً هذا البعد وحاولنا إلقاء الضوء على الجوانب المتعلقة بحياته الأسرية وبرؤية للمرأة فسنكتشف أنها ربما تكون الأكثر إثارة ومدعاة للجدل. فزوجته الحالية، ميلانيا، هي الزوجة الثالثة في حياته، وربما لا تكون الأخيرة، ولديه ضعف شديد تجاه ابنته إيفانكا وزوجها اليهودي جاريد كوشنر بالذات، ويعتمد في تصريف الكثير من أعماله المالية والإدارية على نجليه إريك ودونالد ترامب جونيور اللذين تطلق عليهما بعض وسائل الإعلام، تندراً، «قصي وعدي»، نسبة إلى ابني صدام حسين. ولأن ترامب لا يطيق قيود الحياة الأسرية ولديه ضعف شديد تجاه المرأة والجمال، فقد أصبح دائم الترحال ولم يتردد في اقتناص الجميلات كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بما في ذلك إبان حملة الانتخابات الرئاسية. وربما كان أخطر ما كشف عنه وولف ما تردّد عن ولع ترامب بالإيقاع بزوجات أصدقائه. فحين تروق له إحداهن، يقوم بدعوة زوجها إلى مكتبه، ثم يستدرجه إلى حوار حميم حول علاقاته الغرامية خارج نطاق الزواج، بينما تقوم سكرتيرته بالاتصال بالزوجة المخدوعة لتستمع مباشرة إلى زوجها وهو يحكي بنفسه عن تفاصيل نزواته الخاصة، ممهداً الطريق للوصول إلى أغراضه الخبيثة. كان من الطبيعي أن تنعكس تلك السمات الشخصية على طريقة ترامب في إدارة البيت الأبيض بل والدولة الأميركية ككل. ويسرد مؤلف «النار والغضب» الكثير من التفاصيل التي تلقي الضوء ساطعاً على الكثير من التصرفات والمفارقات. فالبيت الأبيض لم يكن بالنسبة لترامب البليونير سوى سكن ومكتب شديدي التواضع إذا قورنا بسكنه ومكتبه في البرج الذي يحمل اسمه في أهم شوارع مانهاتن، ومن ثم راح يديره باستهانة واستخفاف وكأنه أحد مشروعاته التجارية الخاصة. لذا سرعان ما عمّت الفوضى ربوع البيت الأبيض، والذي لم يشهد في تاريخه ارتباكاً في تعيينات كبار موظفيه مماثلاً لما شهده العام الأول من إدارة ترامب. وعلى رغم نصائح كثيرة قُدمت إلى ترامب للتراجع عما أبداه من رغبة في الاستعانة بعائلته، إلا أنه خالفها وأصر على الاستعانة بابنته إيفانكا وزوجها كوشنر وأسند إليهما الكثير من الملفات المهمة. صحيح أنه أحجم في اللحظة الأخيرة عن تعيين كوشنر كبيراً لموظفي البيت الأبيض، كما كان ينوي من قبل، لكنه لم يتردد في تعيينه كبيراً لمستشاريه وأسند إليه إدارة ملف الشرق الأوسط بتفاصيله المعقّدة، بما ذلك ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وراح يخلع عليه لقب «كيسنجر الصغير». فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن ترامب لم يقرر توجيه الضربة العسكرية إلى مطار الشعيرات في سورية إلا بعد أن عرضت عليه ابنته إيفانكا فيلماً تسجيلياً يحتوي على مقاطع لأطفال يخرجون رغاوي من أفواههم عقب ما قيل عن تعرض منطقتهم السكنية للقصف بالأسلحة الكيماوية، فضلاً عن أن زوج ابنته وثيق الصلة باليمين الإسرائيلي المتطرف، لعب دوراً أساسياً في إقناعه بضرورة الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل في إطار خطة تستهدف وضع الفلسطينيين أمام أمر واقع جديد تمهيداً لحملهم على قبول «صفقة القرن»، لتبين لنا حجم الفوضى التي تخيم على عملية صنع القرار الأميركي حالياً، إذ تبدو دولة المؤسسات وكأنها أسلمت ذقنها لعبث العائلة الترامبية. بقي أن أشير إلى أن كتاب وولف احتوى كذلك على تفاصيل مثيرة تتعلق بقضية «التدخل الروسي» في الانتخابات الأميركية، تؤكد أن دونالد جونيور، التقى خلال الحملة الانتخابية محامية روسية اسمها ناتاليا فيسلنتسكايا، بهدف الحصول على معلومات تسهم في إلحاق الضرر بالموقف الانتخابي لمنافسة والده هيلاري كلينتون، الأمر الذي اعتبره بعض القريبين من ترامب جريمة تصل إلى مرتبة الخيانة العظمى.
ومن المعروف أن ترامب كان قد تقاضى 45 ألف دولار مقابل إلقاء محاضرة في موسكو، وعندما سئل عن مدى صحة هذه المعلومة، أجاب: «هذه لن تعود مشكلة حقيقة إلا حين أصبح رئيساً للجمهورية»، الأمر الذي يوحي بأنه كان يستبعد تماماً إمكانية أن يصبح يوماً ما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. قد لا يكون بمقدور أحد تحديد حجم الضرر الذي أصاب ترامب ومستقبله السياسي جراء نشر هذا الكتاب الخطير. غير أن الأمر المؤكد أنه كتاب يحتوي على معلومات ومعطيات جديدة يفترض أن تشكل حافزاً إضافياً للمدعي العام المكلف بالتحقيق في قضية «التدخل الروسي»، لتضييق الخناق على ترامب وإحكام الحصار حوله. وحتى بافتراض صعوبة التوصل إلى أدلة جديدة تكفي لبدء إجراءات خلعه، إلا أنه يمكن القول بقدر كبير من الثقة أن كتاب «النار والغضب» قد شوّه صورة ترامب تماماً إلى الدرجة التي ستساعد حتماً على تقليم أظافره ووقف اندفاعه خلال الفترة المتبقية من ولايته الأولى، وبالقدر الكافي للحيلولة دون إعادة انتخابه لولاية ثانية.
نقلا عن الحياه اللندنيه