لم تصدر عن الولايات المتحدة حتى الآن أي وثيقة رسمية تفصح عما تخبئه «صفقة القرن» التي يقال أن الرئيس دونالد ترامب يعكف بإصرار على التحضير لها منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى البيت الأبيض. غير أن الدكتور صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس دائرة شؤون المفاوضات في السلطة الفلسطينية، كشف في تقرير سياسي قدمه أخيراً إلى المجلس المركزي، ونشرت صحيفة «الحياة» مقتطفات منه، عن أهم ما تتضمنه من عناصر تتعلق بالشأن الفلسطيني على الأقل، والتي يمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي:
1- تمكين إسرائيل من ضم الكتل الاستيطانية اليهودية المقامة في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. وبينما يصر بنيامين نتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل، على ألا يقل إجمالي مساحة الأراضي الفلسطينية المقتطعة من الضفة والمطلوب ضمها رسمياً لإسرائيل عن 15 في المئة من إجمالي مساحة الضفة، يتردد أن دونالد ترامب، ما زال يحاول إقناع نتانياهو بالاكتفاء بنسبة لا تتجاوز 10 في المئة من هذه المساحة! معنى ذلك أن الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها لن تكون ضمن حدود ما قبل حرب 67، أو طبقاً للفهم العربي لنص وروح القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بعد وقوع هذه الحرب.
2- إخراج قضية السيادة على مدينة القدس من دائرة التفاوض على حدود الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، وهو ما يعني إجبار الفلسطينيين على البحث عن عاصمة أخرى لدولتهم المحتمل قيامها، شريطة أن تكون خارج نطاق الحدود الحالية لمدينة القدس، والتي توافقت إرادة الولايات المتحدة وإسرائيل على اعتبارها عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية. ويبدو أن منطقة أبوديس الواقعة في ضواحي القدس مرشحة إسرائيلياً وأميركياً لإقامة العاصمة الفلسطينية البديلة.
3- الإعلان عن قيام دولة فلسطينية منزوعة بحدود موقتة في البداية، أما الحدود النهائية فتتشكل تدريجاً وفق جدول زمني يتوقف مداه على أداء السلطة الفلسطينية، وسيعترف لهذه الدولة بالصلاحيات اللازمة لتشكيل قوات شُرطية كافية للمحافظة على أمنها الداخلي، والحق في استخدام أجزاء من ميناءي أسدود وحيفا ومطار بن غوريون (للوفاء بحاجات مواطنيها)، وفي المشاركة في إدارة المعابر الدولية التي تربطها ببقية دول العالم. أما أمنها الخارجي فستتولاه دولة إسرائيل، بالتعاون مع الولايات المتحدة ومصر والأردن، بصفة أساسية، ومع أي دولة أو دول أخرى يتم التوافق عليها، ولكن في ظل ضوابط محددة تشمل الاعتراف لإسرائيل بالحق في الاحتفاظ بوحدات عسكرية على طول نهر الأردن وفي منطقة الجبال الوسطى، وبالسيادة المنفردة على ممر آمن سيتم إنشاؤه للربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالسيطرة على المياه الإقليمية والأجواء والموجات الكهرومغناطيسية (مع أخذ حاجات الدولة الفلسطينية في الاعتبار ومن دون إجحاف).
4- حل قضية اللاجئين على أساس السماح لهم من حيث المبدأ بالعودة إلى داخل حدود الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، وليس حول تعويضهم أو عودتهم إلى ديارهم الأصلية كما تقضي نصوص القرار رقم 194 الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، ووفقاً لما تسمح به الطاقة الاستيعابية التي ستتيحها المشروعات التنموية التي سيجري العمل على تنفيذها تدريجاً عقب إعلان قيام هذه الدولة.
وتعكس هذه المقترحات، وفقاً للوصف الذي استخدمه صائب عريقات في تقريره المشار إليه آنفاً، «صفقة تصفوية إملائية تُبقي الوضع القائم على ما هو عليه، وتؤدي عملياً إلى قيام دولة واحدة بنظامين، تشرع الأبارتهايد والاستيطان بمعايير أميركية من خلال حكم ذاتي أبدي»، وهو ما يفسر الأسباب التي دفعت السلطة الفلسطينية، كما يشير التقرير، إلى اتخاذ قرار برفض الصفقة المقترحة، بمجملها وتفاصيلها، نهائياً وفي شكل قاطع، ورد إدارة ترامب بممارسة ضغوط هائلة على السلطة، شملت إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن ورفض تمديد فتحه وقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني عبر الامتناع عن المشاركة في تمويل أنشطة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ولأن عريقات يرى عدم وجود أي إمكانية لاستعادة العلاقة مع إدارة ترامب إلا إذا أقدمت الأخيرة على إلغاء قراري الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، وهو ما يبدو مستبعداً، فقد طالب في تقريره «بالتمسك بوقف جميع الاتصالات معها ورفض اعتبارها وسيطاً أو راعياً لعملية السلام».
إذا صحّ ما جاء في هذا التقرير، والأرجح أنه صحيح ولا يوجد ما يدعونا للتشكيك في صدقيته، فلن تخرج التطورات المتوقعة في المرحلة المقبلة عن احتمالات ثلاثة:
الأول: أن تتراجع إدارة ترامب وتعدل عن طرح «صفقة القرن» رسمياً على الأطراف المعنية، وهو ما تراهن عليه السلطة الفلسطينية التي تعتقد أن النجاح في إجهاض تمرير الصفقة سيؤدي حتماً إلى التقليل من أضرارها الكثيرة المتوقعة. غير أن هذا السيناريو يعني عملياً الإبقاء على الوضع الراهن، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن إسرائيل ستتخذه كذريعة للمضي قدماً على طريق التهويد الكامل لمدينة القدس والتوسع في بناء المستوطنات من دون سقف أو حدود، وربما يدفع الولايات المتحدة للاعتراف بحق إسرائيل في ضم الكتل الاستيطانية اليهودية إليها، الأمر الذي يعني إطالة أمد الأزمة بدلاً من حلها وإعاقة الخطط الأميركية الرامية لدمج إسرائيل رسمياً في المنطقة.
الثاني: أن تصر إدارة ترامب على تمرير الصفقة مهما كان الثمن، وبالتالي دفع الدول العربية الحليفة للضغط على السلطة الفلسطينية، إلى أن تذعن بقبولها تحت ذريعة أن الضرورات تبيح المحظورات وأن المصلحة العربية تتطلب التركيز على مواجهة تمدد نفوذ إيران والجماعات الإرهابية في المنطقة. غير أن هذا الاحتمال قد يؤدي إلى دفع السلطة الفلسطينية لتبني خيار المقاومة وتقديم الكثير من التنازلات لكل من «حماس» و «الجهاد»، الأمر الذي سيصب على المدى الطويل لمصلحة المحور الذي تقوده إيران باعتباره المحور المدافع عن القضية الفلسطينية والرافض للمخططات الأميركية والإسرائيلية الرامية للهيمنة على مقدرات المنطقة.
الثالث: أن تتبنى «دول الاعتدال العربي» المتحالفة مع الولايات المتحدة، بالتنسيق مع إسرائيل، خيار التعجيل بإحداث تغيير في قيادة السلطة الفلسطينية، بدعوى أنها أصبحت طاعنة في السن ولم تعد قادرة صحياً على القيام بالأعباء الملقاة على عاتقها، والعمل بالتالي على فتح الطريق أمام قيادة بديلة تقبل التعاطي إيجابياً مع «صفقة القرن» (خيار دحلان). غير أن هذا الاحتمال قد يؤدي عملياً إلى انفجار الداخل الفلسطيني وزيادة حدة الاستقطاب فيه، نظراً لاستحالة العثور على قيادة تقنع الشعب الفلسطيني بقبول صفقة تؤدي عملياً إلى تصفية قضيته، ما سيهئ الأجواء لإشعال انتفاضة جديدة قد تطيح بالفصائل الفلسطينية المتصارعة وربما تنجح في فرض قيادة بديلة أكثر ذكاء وقدرة على مواجهة تحديات المرحلة وعلى إقامة جسور أكثر متانة مع الشعوب العربية ومع العالم الخارجي.
أخلص في النهاية إلى أن «صفقة القرن»، سواء قررت إدارة ترامب طرحها رسمياً، وفقاً للصيغة التي عرض لها تقرير عريقات أو بعد إدخال تعديلات عليها، أو عدم طرحها والإعلان رسمياً عن توقف الجهود الرامية لإبرامها، ستظل تمارس تأثيرها على تفاعلات الداخل الفلسطيني والنظام الإقليمي العربي والمنطقة ككل. وعلينا أن ننتبه إلى أن النظام الإقليمي العربي الرسمي ارتبط، وجوداً وعدماً وصعوداً وهبوطاً، بالقضية الفلسطينية، ومن ثم فإن القبول بتصفيتها يعني الاعتراف رسمياً بانتفاء الحاجة إلى وجوده من الأساس. غير أن سقوط النظام العربي الرسمي بصيغته الراهنة، بسبب الفشل في إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، لا يعني أبداً وضع نهاية لأحلام الشعوب العربية في الحرية والخبز والكرامة الإنسانية، أو حتى في الوحدة، وإنما وصول الفجوة بين هذه الشعوب وأنظمتها الحاكمة إلى منتهاها. ولا شك أن القضية الفلسطينية، والتي لا تضاهيها قضية أخرى أكثر عدلاً أو نبلاً، ستجد من يدافع عنها على جميع الساحات الفلسطينية والعربية والإقليمية والعالمية، وفي سياق النضال الطبيعي ضد مشروع صهيوني لم يعد قادراً على إخفاء طابعه العنصري القائم على الأبارتهايد، سينشأ حتما نظام عربي جديد أكثر قدرة على التعبير عن تطلعات شعوبه التي لا تزال تتوق إلى العدل والحرية.
نقلًاعن الحياة اللندنية