بقلم - أحمد عبدالمعطى حجازى
فى هذه الأيام الأخيرة نشبت بين الفرنسيين أو بين فريق منهم وفريق آخر معركة ترددت أصداؤها فى الصحف وفى غيرها من وسائل الإعلام، ورأيت أن أحدثكم عنها لنتابعها معا، ولنشارك فيها - أيضا - ولو من بعيد، لأنها قامت حول مسألة تخصنا وهى لغتنا الجميلة.
كانت الشرارة التى بدأت منها هذه المعركة هى المشروع الذى أعلن عنه وزير التربية الوطنية الفرنسى جان ميشيل بلانكيه ويقضى بأن تكون اللغة العربية احدى اللغات التى يتعلمها التلاميذ الفرنسيون فى كل مدارس فرنسا ابتداء من المرحلة الابتدائية بدلا من أن يتأخر تدريسها إلى المرحلة المتوسطة وأن يكون محصورا فى مناطق دون أخري.
وكانت الحكومة الفرنسية قد بدأت الخطوة الأولى فى هذا المشروع قبل عشر سنوات حين قررت أن تتيح لمن يريد من التلاميذ العرب فى مناطق بالذات أن يتعلم العربية بداية من المرحلة الابتدائية ليتمكن منها فى المراحل التالية. ثم جاءت الحكومة الحالية لتعمم هذا المشروع فى كل فرنسا، وهنا قامت قيامة المعارضة وخاصة أحزاب اليمين واليمين المتطرف تستنكر وتطالب بإعطاء الوقت الذى سيخصص لتدريس العربية والمال الذى سينفق فى هذا المشروع لدعم اللغة الفرنسية وتقويم مناهج تدريسها.
وقد زعم هؤلاء المعارضون أن وزير التربية يسعى لجعل اللغة العربية إجبارية فى المدارس الفرنسية، ومنهم من قال إن الذين اصدروا هذا القرار يسعون لتعريب فرنسا، ومنهم من قال إن وزير التربية يجامل العرب والمسلمين على حسابنا، وآخرون يعبرون عن خوفهم من أن يؤدى تعليم العربية فى المدارس الحكومية إلى إقحام الإسلام فى التربية الوطنية. وهذا ما تصدى له الوزير وكذبه فى حديث قال فيه: لم يحدث أبدا أنى قلت إن اللغة العربية ستكون مادة إجبارية فى المدارس الفرنسية، وإنما ستكون مثل غيرها من اللغات الأجنبية التى يستطيع الطلاب الفرنسيون أيا كانت أصولهم العرقية ان يتعلموها إذا ارادوا، مثلها فى هذا مثل الروسية والصينية وغيرهما من اللغات الأجنبية التى قررت وزارة التربية تدريسها فى فرنسا لأنها تعرف قيمتها.
واستطرد الوزير قائلا: إن اللغة العربية لغة أدبية حية وعالمية، فالذين يتكلمونها ويعتبرونها لغتهم الرسمية ويستخدمونها فى حياتهم العملية وفى نشاطهم الفكرى يبلغ عددهم 430 مليونا فى 26 بلدا من بلاد العالم. وهى بهذا تعتبر خامس لغة عالمية. ولأن تراثها الثقافى حافل وفريد لأنه كان مفتوحا على الثقافات الإنسانية المختلفة، ولأن الحاجة العملية إليها ضرورية فى النشاط الدبلوماسى وفى النشاط الاقتصادى فهى جديرة بأن يتعلمها ليس فقط العرب والمسلمون وانما غير العرب وغير المسلمين أيضا.
ونحن ننظر فى فرنسا فنرى أن وضع اللغة العربية الراهن لا يترجم هذه الحقائق. هناك طفل واحد فى كل ألف طفل عربى يتعلم لغة آبائه فى المرحلة الابتدائية. وهناك طفلان اثنان فقط فى كل ألف طفل يتعلمان العربية فى المرحلة المتوسطة.
وفى الوقت الذى تزايد فيه عدد المهاجرين المسلمين فى فرنسا ووصل إلى أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون منهم حوالى أربعة ملايين عربى تناقص عدد الذين يتعلمون العربية فى المدارس الحكومية حتى أصبح أقل من نصف الذين كانوا يتعلمونها منذ عشرين سنة، على حين تضاعف عدد الذين يتعلمونها فى المساجد عشر مرات، ومعنى هذا أن إفساح المجال فى المدارس الحكومية لتعليم العربية يحمى التلاميذ العرب والمسلمين من أن يقعوا فريسة فى ايدى الذين يخلطون بين اللغة والدين، ومن ثم يفلح المتطرفون منهم فى تجنيد من يقع تحت تأثيرهم ويحولونه إلى قنبلة تسمع وتطيع.
ومن واجبنا أن نتفهم خوف الفرنسيين من هذا الخلط الذى عانوا منه طوال العصور الوسطى ولم يفلحوا فى وضع حد له إلا فى أوائل القرن العشرين وبالتحديد فى عام 1905 الذى ميزوا فيه بين وظيفة المدرسة ووظيفة دور العبادة. فالمدرسة للتربية الوطنية التى تجمع بين المسيحى والمسلم واليهودي، والكنيسة والمسجد والمعبد للدين، وبهذا القانون منعوا أى سلوك دينى فى المدرسة يمكن أن يميز تلميذا عن آخر مثل حجاب البنت المسلمة وطاقية الصبى اليهودى.
ونحن لا نستطيع أن ننكر العلاقة الوثيقة بين الإسلام واللغة العربية، هذه العلاقة التى حولت دروس اللغة العربية فى مدارسنا إلى دروس فى الدين تفرض على كل التلاميذ مسلمين وغير مسلمين، وهذا ما يجب علينا أن نراجعه فلكل مقام مقال، ولابد أن نعطى المثل للأوروبيين الذين يواجهون الإرهاب الذى نواجهه ونطمئنهم إلى أن درس اللغة درس فى اللغة لا فى سواها، وبهذا نقف إلى جانب الذين يدافعون عن لغتنا وثقافتنا فى فرنسا وفى غيرها ونرجح كفتهم. وهذا هو ما قصدته حين قلت فى بداية هذا الحديث إن المسألة التى قامت بسببها هذه المعركة ليست بعيدة عنا، ولسنا فيها محايدين، لأن الدفاع عن لغتنا فى المهاجر الأوروبية وغيرها دفاع عن وجودنا الذى لن يكون آمنا إلا إذا كان مأمونا، ولن يكون إضافة لنا إلا إذا كان فى الوقت ذاته إضافة للأوروبيين قادرا على أن يتصدى للمتطرفين العنصريين منهم، لا بالعنف كما يفعل الإرهابيون ولا بالخروج على القانون. وإنما بالعمل والإنتاج والإبداع والحوار وتقديم النموذج الذى يكون فيه الانتماء للأصل مفتوحا للانتماء الجديد غير مغلق وغير منعزل. وإلا فكيف يستطيع المهاجرون العرب والمسلمون الذين يعدون الآن بعشرات الملايين أن يواصلوا حياتهم ويطمئنوا على مصير أجيالهم الجديدة إذا ظلوا يواصلون حياتهم فى هامش المجتمعات الأوروبية؟. ونحن نعلم جيدا أن الفرنسيين وأن الأوروبيين عامة ليسوا كلهم سواء. أنهم فريقان مختلفان: فريق يحترم إنسانيته ولهذا يحترم إنسانية الآخر المهاجر ويشجعه على الاندماج فى مجتمعه ويساعده ويفتح أمامه الطرق. وفريق آخر يرفضه ويشترط عليه إذا أراد البقاء أن ينكر أصله ويقطع صلته بثقافة آبائه وأجداده. ومن الطبيعى والمنطقى أن نكون مع الفريق الأول وذلك بأن نحافظ على الجامع المشترك بيننا وبينهم، وهو الحياة الحرة الكريمة الآمنة والتعاون المثمر والحوار الخلاق وأن نميز بينه وبين ما يخصنا. ولاشك فى أن ما يجمع بين البشر أكثر بكثير مما يفرق بينهم.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع