لم أفاجأ كثيراً حين قرأت فى إحدى الصحف اليومية عبارة منسوبة لأحد السادة الوزراء وجهها لمن اجتمع بهم ممن يعملون معه فى وزارته طالبا من كل منهم «أن يكون دكر فى مواجهة المخالفين» !
ومن الواضح أن الوزير أراد ممن وجه لهم هذه العبارة أن يكونوا حازمين حريصين على احترام القوانين والقواعد التى تنظم العمل وتحقق المصلحة العامة. وهو بهذا القصد يؤدى الواجب ويستحق الشكر. لكن القصد وحده لا يكفى فى الحكم على أى عمل، وإنما الأسلوب الذى نتبعه فى التعبير عن مقاصدنا واللغة التى نستعملها ونتحرى فيها أن تكون واضحة دقيقة تصيب الهدف ولا تتعداه إلى ما يتعارض مع المعنى المقصود. وهذا للأسف ما لم يلتفت له السيد الوزير حين استخدم عبارته التى نقلتها لنا الصحيفة وجعلتها عنوانا للخبر الذى نشرته.
صحيح أن الوزير لم يخترع هذه العبارة وأنها ميراث متداول يجرى على الألسنة فى بعض الأوساط. لكنه صحيح أيضا أنها فقدت حصانتها الموروثة لأنها تحمل من المعانى والإيماءات ما يتعارض مع ثقافتنا الحديثة، ومع القيم والمبادىء والتقاليد التى نريد أن نرسخها فى حياتنا الاجتماعية وفى نشاطنا العام.
إنها ليست مجرد كلمة عامية دارجة، وإنما هى ثقافة بدوية تميز بين الرجل والمرأة تمييزاً يشوه صورة كل منهما. فهى تنسب للرجل القوة والصلابة والحزم..لكنها لا تجعل هذه الصفات فضائل إنسانية تصدر عن التربية السليمة وعن الضمير الحى اليقظ الذى يعرف به الإنسان معنى الخير والحق والنزاهة والاستقامة، سواء أكان رجلاً أوامرأة، وإنما تجعلها خلقة ذكورية لا توجد ولا تتجسد إلا فى الرجل لأنه ذكر، وعلى هذا تصبح المرأة فاقدة لهذه الفضائل محرومة دائما منها لأنها أنثى. بل هى تتصف بعكسها، بالضعف، والميل مع الهوى، والانصياع للضغوط.
وأنا لا أقول إن هذه الصفات السلبية المنسوبة للمرأة كانت مقصودة أو حاضرة فى ذهن الوزير وهو يتحدث، لكنها حاضرة بلاشك فى العبارة التى استخدمها، وهى تفهم من هذه العبارة، سواء أكانت مقصودة أو غير مقصودة، لأن اللغة حافلة بما تختزنه من المعانى والدلالات التى تفرض نفسها على المتحدث والمستمع. ولهذا يجب علينا أن نختار لغتنا وأن نستخدمها بحرص، خاصة فى نشاطنا العام الذى نحتاج فيه للوضوح والتحديد والتدقيق، وإلا عرضنا أنفسنا للوقوع فى الخطأ، وسمحنا للعبارة بأن تخوننا وتأخذنا على غرة وتدفعنا لأن نقول ما لم نقصده وما لا نرضاه.
ولقد تساءلت بينى وبين نفسى : هل كان هذا الاجتماع الذى استخدم فيه الوزير هذه العبارة مقصورا على الموظفين «الذكور» ولم تحضره بعض الموظفات ؟ وإذا كانت الحكومة الحالية التى يعمل الوزير ضمنها تضم ست سيدات يشغلن ستة مناصب فضلاً عن عشرات السيدات اللائى ينبن عنا فى البرلمان وعن مناصب أخرى عديدة تشغلها المرأة المصرية منذ سنوات عديدة فى جميع المجالات، هل يجوز استخدام هذه العبارة الآن ؟
والحقيقة أننى فيما قدمته لا أقف أمام هذه العبارة وحدها أو أمام هذه الواقعة التى تحدثت عنها فحسب، وإنما أقف أمام حقيقة يعرفها الجميع، وهى أن لغتنا فسدت إلى الحد الذى أصبح علينا فيه أن نسارع لإنقاذها حتى ننقذ أنفسنا، وإلا فكل شىء معرض للفساد.
وكنت قد أنهيت مقالتى السابقة قائلاً إننا تركنا الركاكة تسرح وتمرح وتصول وتجول حتى دخلت نشيدنا الوطنى، ووعدت بأن أوضح ما قلته فى هذه المقالة، وها أنا أفعل فأقول أولاً إن النشيد الوطنى لأى أمة هو الصوت الجامع الذى تتحد فيه أصوات أبنائها لأنه يمثلهم ويجسد شخصيتهم ويستحضر تاريخهم ويعبر عن أمالهم وأحلامهم فلابد أن يتصف بالجمال والصدق وأن يبرأ من الخطأ لكى يكون شاهداً على الصواب ومحرضا عليه، كما نرى فى النشيد الوطنى الفرنسى «المارسيلييز» الذى يذكر الفرنسيين بما قدموه لأنفسهم وللعالم فى ثورتهم المجيدة، وفى النشيد الوطنى الانجليزى الذى يمكن أن نعتبره إبداعاً جماعياً أو فولكلوراً، لأن ناظمه وملحنه مجهولان، وفى النشيد الهندى الذى نظمه أمير شعراء الهند رابندرانات طاغور . فماذا عن نشيدنا نحن ؟
لقد ترافق بحثنا عن النشيد الوطنى مع سعينا لنيل حريتنا والاستقلال بأنفسنا عن الأتراك والانجليز. وكانت المحاولة الأولى مع أوبرا عايدة التى وقع الاختيار على لحن من ألحانها ليكون سلاما وطنيا حتى اشتعلت ثورة 1919 فكانت هى وما تحقق فيها من انتصارات مناخا حماسيا أوحى بتنظيم مسابقات لاختيار النشيد الوطنى المصرى، شارك فيها عدد من الشعراء فى مقدمتهم أحمد شوقى،ومصطفى صادق الرافعى، وعباس محمود العقاد، وعدد من الملحنين منهم محمد صفر على الذى لحن كلمات مصطفى صادق الرافعى فظهر النشيد القوى الذى مازال يتردد حتى الآن «اسلمى يا مصر إننى الفدا» وإن لم يقع عليه الاختيار. ثم مضت سنوات وأعيدت الكرة فاختارت لجنة التحكيم نشيداً آخر لم يقدر له أن يبقى طويلاً. وجاءت حركة يوليو لتتبنى نشيدا كتب كلماته كامل الشناوى ولحنه محمد عبد الوهاب وكان مصيره مصير الأناشيد التى سبقته فقد وقع العدوان الثلاثى وغنت أم كلثوم من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل أغنية (والله زمان ياسلاحى) التى صارت نشيداً وطنياً حتى كانت حرب أكتوبر والانتصار الذى تحقق فيها وأوحى للرئيس الراحل أنور السادات باختيار النشيد الحالى، وهو من ألحان سيد درويش ومن كلمات مؤلف اسمه يونس القاضى.
وأنا لست فى حاجة للتعبير عن افتتانى بسيد درويش وبمقدرته الفذة على تمثيل الشخصية المصرية بكل ملامحها. فإذا كان لى ما آخذه على النشيد فهو على الكلمات لا على الألحان. الكلمات كتبها مؤلف أغان اشتهر فى عشرينيات القرن الماضى بأغانيه التى يتحدث فيها عن «الخلاعة والدلاعة» وعما يكون «بعد العشا من الهزار والفرفشة» !
ومع أنه ضمن كلمات النشيد بعض العبارات المأخوذة من خطبة مشهورة لمصطفى كامل فقد خلط فيها العامية بالفصحى وخرج من وزن لآخر، فأصبح النشيد الوطنى صورة للفوضى والركاكة، وصار علينا نحن المصريين أن نحتفى بهذه الفوضى، وأن ننهض احتراما لهذه الركاكة، وأن يتعلم أبناؤنا من الفوضى والركاكة كيف يحبون وطنهم وكيف يحترمون لغتهم !وقد آن لنا أن ننقذ لغتنا لننقذ أنفسنا!
نقلاً عن الاهرام القاهرية