بقلم - أحمد عبدالمعطى حجازى
فى هذه المقالة من السلسلة التى أكتبها حول اللغة، وما صارت إليه فى هذه الأيام أجيب على سؤال، ربما خطر لبعض القراء أو لكثير منهم، وهو: لماذا هذا الإلحاح فى الحديث عن اللغة؟ ألم تكن تكفى مقالة أو مقالتان؟
والجواب بكل بساطة هو أن هذا الإلحاح هو الرد الطبيعى على ما تلقاه لغتنا الفصحى من صور الإهمال واللامبالاة والاستخفاف فى معظم الأوساط والدوائر والمؤسسات بما فيها المؤسسات التى أنشأتها الدولة لترعى اللغة، وتوفر لها أسباب النمو والرقى والازدهار والانتشار. هذه الدوائر وهذه المؤسسات لم تقف عند حد التقصير فى أداء هذا الواجب المقدس، ولكنها تجاوزت هذا الحد، فأصبحت مصدرا لإفساد اللغة وتشويهها وقتلها، لا بطريق الخطأ، وإنما مع الاصرار والترصد والتعمد، وإلا فكيف نفسر هذا الإلحاح فى استخدام العامية فى الإعلانات، وفى الإذاعات، وفى أجهزة الإعلام المختلفة؟ وما الذى يضطر هذه الدكاكين التى تعلن عن بضاعتها، فتقول إنها تطهو ما تطهوه «ع الفحم» بدلا من أن تقول «على الفحم» دون أن تتهم بالإغراب أو التكلف؟ فإذا كانت «ع الفحم» لهجة دارجة لها أصل قديم، كما يمكن أن يكون صحيحا، وإذا كنا نستخدمها فى حديثنا الشفهى. فنحن لسنا مضطرين لها فى عبارة نكتبها بالخط العريض ونسد بها عرض الشارع ونفرضها فرضا على العابرين، ومنهم تلاميذ المدارس الذين نقتطع من قوتنا ما ندفعه ليتعلموا لغتهم الفصحى، ثم نطلق عليهم هذه الإعلانات بما تحمله من عبارات لا تخلو فى بعض الأحيان من التبذل والسوقية، ويرى أبناؤنا فى كتابتها واستخدامها اعترافا علنيا بها لا تحصل عليه اللغة الفصحى التى يجدونها يتيمة منزوية محصورة فى كتبهم المدرسية؟.
وما الذى يفرض على من يحددون الزمن فى إعلاناتهم المنشورة فى الصحف، وفى غيرها أن يقولوا «30يوم» بدلا من «30يوما»؟ وما الذى يفرض على إدارة المرور، أن تضع نقطتين على كلمة «المتجه» لتصبح هكذا «المتجة»، لا مرة ولا مرتين نعتبرهما خطأ عابرا. بل فى كل المرات حتى صار وضع النقطتين على أى هاء تنتهى بها الكلمة قاعدة متبعة نجدها فى الجنيه، والوجيه، والسفيه؟! هذا الاستخفاف بالفصحى، وهذا الاستهتار المتعمد يضاف إلى الأمية التى مازالت تفتك بنسبة كبيرة من المصريين ليغرى بعض الصحفيين باستخدام العامية فى كتاباتهم دون أى اعتبار يبرر لهم ذلك. ولقد كان بعض النقاد فى الأيام الماضية يأخذون على معاصريهم من كتاب القصة والرواية استخدامهم العامية، فيما يديرونه من حوار مع النماذج الشعبية التى يصورونها فى أعمالهم، لأن القصة فى رأى هؤلاء النقاد ليست تسجيلا أو تصويرا فوتوغرافيا لهذه النماذج، وإنما هى فن ولغة يستطيع الكاتب أن يطوعها لرسم الشخصية أيا كانت أصولها الاجتماعية أو الثقافية، وقد استخدم نجيب محفوظ الفصحى فى رسم شخصياته، وفى الحوار الذى أنطقها به، وهذا ما فعله من قبل طه حسين وتوفيق الحكيم الذى استخدم فى بعض مسرحياته لغة سماها اللغة الثالثة، لأنه جمع فيها بين مزايا الفصحى ومزايا العامية، الصحة والبساطة، لكن الفصحى ضعفت فى هذه الأيام، وتراجعت وفقدت حصانتها التى كانت تتمتع بها، وأصبح فى استطاعة العامية المهذبة، وغير المهذبة أن تهاجمها فى عقر دارها وتفرض نفسها، حتى فى الأشكال التى تشتد فيها حاجة الكاتب للفصحى، لأنه يقدم فيها آراء وأفكارا تحتاج فى عرضها ومناقشتها للغة دقيقة مستقيمة لا تحتمل إلا المعنى الذى يريد الكاتب أن يعبر عنه ويوصله، وهذا ما تفتقر إليه العامية التى تستطيع أن تسهم فى وصف البيئات ورسم الشخصيات، والتعبير عن بعض العواطف، لكنها لا تستطيع فى تناول الأفكار أن تناقش أو تحلل أو تحدد أو تدقق. من هنا يلجأ للعامية الذين يريدون أن يبتزوا القارئ أو المستمع أو المشترى بلغته التى يستخدمونها ليتهربوا من التحديد الذى يستدعى الالتزام، ويعطى الحق فى المساءلة والمحاسبة. هكذا يتبين لنا أن الطعنات التى توجه للفصحى فى كل لحظة وفى كل شكل وصورة مقصودة، وأن تراجع الفصحى تعبير عن تراجع الضمير الأخلاقى الذى نشكو منه فى نشاطها العام، وفى مجالاته المختلفة. والعامية إذن ليست حتما، وليست قضاء وقدرا، ولكنها مهرب وقناع وأداة يمكن استخدامها والتلاعب بها. وقد استخدمت العامية خلال العقود الستة الماضية فى الدعاية للسلطة، واستبعدت الفصحى وتعرضت للاهمال لأنها لغة الثقافة المشاغبة!. ولقد يظن البعض أنى بهذا الموقف الذى أقفه أتعصب للفصحى وأتبرأ من العامية، وهذا ليس صحيحا، فالعامية ليست بالنسبة لى لغة أجنبية، وإنما هى لغة عربية بقدر ما هى مصرية، وهى إذن لغتى كما أن الفصحى لغتى، سوى أنى أعرف للعامية مكانها فى حياتنا باعتبارها لهجة شعبية إلى جانب الفصحى باعتبارها لغة مثقفة هى الأصل الذى نبعت منه العامية، فباستطاعة كل منهما أن تأخذ من الأخرى وتعطيها، وهذا بالضبط ما حدث فى العقود التى ازدهرت فيها العربية بصورتيها فظهر البارودى والنديم، وظهر بعدهما شوقى وبيرم، ولقد رأينا أن شعراء الفصحى فى تلك العقود لم يترددوا فى النظم بالعامية حين وجدوا الدافع واستدعى المقام المقال، النديم نظم بالعامية وبالفصحى، وإسماعيل صبرى، وشوقى أمير شعراء الفصحى نظم لعبد الوهاب عددا من أجمل أغانيه، ورامى، وصالح جودت، وفى شعر صلاح جاهين وفؤاد حداد قصائد لا ينقصها لتعد من الفصحى إلا الاعراب.
ولو قارنا بين ما كنا فيه وما صرنا إليه لتبين لنا أن علاقة الفصحى بالعامية لم تتغير، وأنها ظلت فى السلب كما كانت فى الإيجاب، وإلا فمن يستطيع أن ينكر أن التدهور الذى أصاب الفصحى أصاب العامية فى الوقت ذاته؟ قارنوا بين أغانى الأمس وأغانى اليوم، بين سينما الأمس وسينما اليوم، بين لغة الشارع، كما كانت فى الماضى ولغة الشارع كما نسمعها فى هذه الأيام.
لهذا ألح فى حديثى عن لغتنا الفصحى!
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع