بقلم - أحمد عبدالمعطى حجازى
فى الماضى البعيد كانت الظواهر الطبيعية والوقائع التاريخية تتحول إلى أساطير، لأن العقل الإنسانى فى العصور الماضية كان لايزال طفلا يحبو ويقف منبهرا بما لا يستطيع تفسيره إلا بما يشعر به من رغبات ومخاوف وبما يخطر له فى نومه ويقظته من أحلام وكوابيس، يستمد منها التفسير الذى نراه فى أساطير القدماء، تلك التى عرفنا حقيقتها فى العصور الحديثة حين بلغ العقل الإنسانى سن الرشد، وأصبح قادرا على أن يرجع بالظاهرة أو الواقعة إلى أصولها، وأن يربط بين الأسباب والنتائج، وأن يعيد على هذا النحو اكتشاف الماضي، وأن يتوقع المستقبل ويرسم فى خياله صورته.
هكذا كنا نرى التاريخ ونفهم تطوراته حتى وقعت حادثة غريبة سار فيها التاريخ بالعكس وتحولت فيها الأسطورة إلى واقع، وذلك حين نجح اليهود الصهيونيون فى أن ينشئوا دولة من أسطورة دينية يعتقدون فيها أنهم شعب الله المختار، وأنه فضلهم على العالمين، وأنقذهم من العبودية فى مصر، وأعطاهم فلسطين يحلون فيها خلال العصور الماضية محل أهلها، ثم يغادرونها ويتفرقون فى أنحاء العالم ثمانية عشر قرنا متواصلة، ثم يعودون إليها بعد أن انفصلوا عنها وعن أسلافهم الذين عاشوا فيها، وبعد أن ارتبطت حياتهم بحياة الشعوب التى اختلطوا بها وصاروا منها وتكلموا لغاتها بعد أن نسوا لغتهم وتبنوا ثقافاتها ولم يعودوا يتميزون فيها إلا بعقيدتهم الدينية وبأساطيرهم التى كانت تلح عليهم، وتقف حاجزا بينهم وبين غيرهم، وتحول دون اندماجهم الكامل فى حياة البلاد التى عاشوا فيها. وهو وضع تعرضت له على نحو أو آخر كل الأقليات الدينية والمذهبية طوال العصور الماضية فى كل المجتمعات وتجاوزته فى العصور الحديثة التى تحرر فيها البشر، وقامت الدول الوطنية على أنقاض الدول الدينية، وأصبح الإنتماء للوطن هو الأساس الذى تترتب عليه الحقوق والواجبات، ولا يتميز فيه مواطن عن مواطن أو إنسان عن إنسان آخر بسبب دينه أو أصله. وفى مقدمة المجتمعات التى تحررت من التمييز الدينى والعنصرى وأقرت مبدأ المساواة بين كل المواطنين المجتمعات الأوروبية والغربية التى عاش فيها معظم اليهود ولايزالون يعيشون فيها حتى اليوم. ومع كل هذه التطورات التى كان ينتظر منها أن تحرر اليهود من سلطان الأسطورة وتقنعهم بالاندماج الكامل حيث يعيشون والانخراط فى نضال البشر الآخرين من أجل التحرر والتقدم والسلام استطاعت الصهيونية أن تقود الكثيرين منهم فى الاتجاه المضاد وتجعلهم أدوات تفكر بمنطق الأسطورة وتتحرك بإرادتها، وأن تنجح مع ذلك فى أن تحول هذه الأسطورة التى عفا عليها الزمن إلى أمر واقع، دولة لا تنقصها فى الظاهر سمة من سمات الدول فى هذا العصر الذى نعيش فيه. جيش، وحكومة، وبرلمان، وأحزاب، وأموال، وسفارات، وجامعات..ومع ذلك فكل ما وراء هذا الظاهر وهم لا يختلف عما نراه فى الكوميديا السوداء إلا فى أن العرض المسرحى الذى يتحول فيه النص المكتوب إلى واقع مشهود يبدأ بإطفاء الأنوار وفتح الستار إيذانا بأننا نخرج من الواقع بعض الوقت لندخل فيما يحاكيه أو يذكر به. ثم ينزل الستار وتضاء الأنوار لنخرج من المسرح ونعود للواقع من جديد. والأمر ليس كذلك فى العرض الذى قدمته الصهيونية بعنوان «إسرائيل»!
لقد انطفأت الأنوار فى هذه الكوميديا السوداء وارتفع الستار ثم لم ينزل إلى الآن. فى الوقت الذى تعرض فيه الواقع الحى الذى كانت تعيشه فلسطين ويعيشه شعبها طوال القرون الماضية للضربات والطعنات التى أفقدته الكثير مما كان له. وهكذا يتعرض الحق للهدم والبدد، بينما تتحول الأسطورة إلى أمر واقع! ونحن نعرف أن بنى إسرائيل دخلوا فلسطين حوالى القرن الثانى عشر قبل الميلاد ورحلوا عنها فى القرن الثانى بعده دون أن يتركوا وراءهم إلا أنقاض الهيكل الذى بناه لهم الفينيقيون على الطراز الفرعونى فى القدس التى كانت تسمى من قبل أورشليم. وهى مدينة كنعانية استولى عليها اليهود فى القرن العاشر قبل الميلاد ثم رحلوا بعد هزيمتهم أمام الرومان وانتشار المسيحية، ولم يعد إليها منهم خلال القرون التالية إلا أفراد قلائل.
فى القرن الحادى عشر عندما احتل الصليبيون القدس لم يجدوا فيها يهوديا واحدا. وحتى أواخر القرن السابع عشر لم يزد عدد اليهود فى فلسطين كلها على مائة وخمسين شخصا. وفى أواسط القرن التاسع عشر أصبحوا ستة آلاف بينما كان الفلسطينيون يعدون بمئات الآلاف ويملكون ما ورثوه عن أسلافهم، الأرض، والسماء، والبر، والبحر، والتاريخ، واللغة.. كيف انهزم هذا كله وانتصر الأغراب القادمون من أنحاء العالم بأصولهم وسماتهم المختلفة، وتواريخهم، ولغاتهم البولندية، والروسية، واليديشية، والانجليزية، والفرنسية؟ هل يكون انتصار هؤلاء دليلا على أنهم أصحاب حق، وتكون الهزيمة التى حاقت بالفلسطينيين دليلا ضدهم؟
لا.. وإلا كان تصديق السذج للخرافات وإيمانهم بأن المشعوذين يملكون قدرات خفية يسخرون بها الجن ويقضون بها الحاجات، دليلا على أن الخرافة حق وأن ما يتعارض مع الخرافة باطل. ثم إن الذين انتصروا فى الحرب وخسروا بعدها كثيرون. التتار اجتاحوا العالم ثم تبخروا. والأمبراطوريات التى قامت فى الماضى والحاضر. والألمان النازيون، والايطاليون، الفاشيون..
والصهيونيون لم ينتصروا بأنفسهم وإنما انتصروا بوعد بلفور، وبأموال روتشيلد، وبحاجة المستعمرين الغربيين لقاعدة لا تكون مجرد معسكر وإنما تكون مستوطنة مسلحة تحرس لهم مصالحهم وتعتمد فى بقائها عليهم. وانتصروا من ناحية أخرى بضعف الفلسطينيين أصحاب الحق وانقسامهم وعجزهم هم وبقية العرب عن فهم ما كان يحدث وما كان فى طريقه لأن يحدث. والسؤال المرعب المطروح علينا هو: أى مصير ينتظر الفلسطينيين لو بقيت أوضاعهم وأوضاعنا على ما هى عليه؟ والسؤال المرعب المطروح على إسرائيل هو: ماذا سيكون مصيرها لو أن الأسباب والظروف التى ساعدت على قيامها تعارضت أو تغيرت؟!وكيف يخرج الطرفان من هذه المواجهة المرعبة؟!
نقلا عن الاهرام القاهريه