بقلم - أحمد عبدالمعطى حجازى
يبدو أن مقالاتى التى رأيت فيها أن هناك علاقة عضوية تربط بين الحركة الصهيونية وجماعة الإخوان لقيت استجابة عبر عنها بعض القراء الأعزاء فى رسائل مكتوبة، وعبر عنها بعض الزملاء بمكالمات هاتفية، وعبر عنها آخرون بالنقل دون إشارة للمصدر.
وأنا أريد فى هذه المقالة الختامية أن أضيف إلى ما قلته بعض الملحوظات وأجيب عن بعض الأسئلة.
لماذا لم نكتشف من قبل هذه العلاقة العضوية التى تربط بين الحركة الصهيونية وبين جماعة الإخوان ؟
لقد كانت الحركتان تبدوان لنا على طرفى نقيض، فما الذى يجمع بين تيودور هرتزل وحسن البنا ؟ بين حركة نشأت فى أوروبا فى أواخر القرن التاسع عشر تدعو اليهود للهجرة إلى فلسطين وبين جماعة إسلامية نشأت فى مصر فى العشرينيات الأخيرة من القرن الماضى تدعو للتمسك بالاسلام وتطبيق الشريعة وتعتبر الحضارة الحديثة انحلالا وإباحية ؟
هذه النشأة فى وقتها وفى الظروف التى أحاطت بها وبالأساليب والطرق التى اتبعتها كل من الحركتين لم تكن تسمح لنا بأن نرى إلا الجزء الطافى أو السطح الظاهر منهما. فالحركة الصهيونية حلقة من حلقات الاستعمار الغربى نتعامل معها كما كنا نتعامل مع المحتلين الإنجليز فى مصر والسودان ومع المحتلين الفرنسيين فى بلاد المغرب. وجماعة الاخوان حركة من الحركات الاسلامية، التى بدأت بابن عبد الوهاب فى الجزيرة العربية وتواصلت مع السنوسى فى بلاد المغرب، والأفغانى ومحمد عبده فى مصر، والمهدى فى السودان. والحركتان إذن الصهيونية والإخوانية على طرفى نقيض. وهذا ما بدالنا حين احتل الانجليز فلسطين وفتحوها للهجرة الصهيونية وأصدروا وعدهم بتمكين اليهود من إنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين، فكانت ردود الفعل العربية التى شارك فيها الاخوان وعبروا عن موقف مناهض للمشروع الصهيونى بطرق مختلفة.
لكن هذا الذى كنا نراه ونقف عنده فى الحركتين كان سطحا ظاهراً يخفى ما وراءه من الحقائق التى لم نكن قادرين على رؤيتها لأن رؤيتها كانت تحتاج لوقت يساعد على كشفها وتجارب ندخلها ونعرف نتائجها.
الحركة الصهيونية لم تكن مجرد دعوة للهجرة إلى مكان آمن، ولم تكن مجرد حلقة من حلقات الاستعمار الغربى، ولكنها كانت خططاً مرسومة بدقة ومدعومة بالخبرات والأموال والجيوش الاستعمارية لإخلاء فلسطين من أهلها وإحلال اليهود محلهم، لا ليكونوا مجرد جالية أجنبية كالجاليات الأجنبية التى كانت تعيش وتمارس نشاطها فى البلاد التى احتلها الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون والإسبان، بل ليكونوا شعبا بديلا يحل محل الفلسطينيين الذين لم يكونوا موجودين فى نظر الصهيونيين، لأنهم كانوا تحت حكم العثمانيين مجرد رعايا لا حق لهم فى أن يعبروا عن شخصيتهم الوطنية بأى صورة من الصور. وهو وضع استغله الصهيونيون فى دعاياتهم التى كانوا يقولون فيها إن «فلسطين أرض بلا شعب» فهى لليهود الذين يملكونها بالحق الإلهى والحق الإنسانى. لأنهم شعب الله المختار. وقد وعدهم الله ـ كما وعدهم بلفور ! ـ بأن تكون فلسطين أرض الميعاد لهم. ثم لأنهم «شعب بلا أرض» موزع منذ ألفى عام فى بلاد العالم فله الحق فى وطن يجمع أشتاته ! بهذه الصورة وبهذا المنطق دخلت الصهيونية فلسطين فانفتح المجال لظهور جماعة الإخوان. لم تكن جماعة الإخوان إلا رد فعل للحركة الصهيونية تقاومها فى الظاهر وتقلدها وتمكن لها فى الباطن، وهذه هى الحقيقة التى عرفناها متأخرين. لأننا دخلنا العصور الحديثة متأخرين وعشنا فيها بوعى لم ينضج ولم يكتمل.
ناضلنا فى سبيل الاستقلال الوطنى. لكننا حصرنا معنى الاستقلال فى طرد المحتلين، ولم نربط بين حرية الوطن وحرية المواطن. وطالبنا بالديمقراطية. لكننا حصرنا الديموقراطية فى الانتخابات التى لم تكن دائما نزيهة ولم ندرك أن الديمقراطية نشاط دائم نمارس فيه حقنا فى التفكير والتعبير وامتحان الآراء بالحوار ومحاسبة السلطة القائمة وإعداد البديل الذى يحل محلها. وإذا كانت الديمقراطية هى سلطة العقل والضمير وهى الاحتكام للمصلحة العامة والاعتراف بالأخطاء والبحث عن الصواب فالديمقراطية لا تتحقق إلا بفصل الدين عن الدولة وعن السياسة. وهذا مبدأ لم نلتزمه لأننا عشنا طوال العصور الماضية في ظل الدول الدينية المتعاقبة والثقافات المعادية للعقل، ولأن الحركة الصهيونية وجماعات الإسلام السياسى قطعت علينا فى هذا العصر الذى نعيش فيه طريق النهضة وفرضت علينا هذه الردة التى نتخبط فيها حتى الآن.
فى عشرينيات القرن الماضى كانت الظروف فى مصر وفى المنطقة العربية مهيأة لنهضة حقيقية تحل فيها الدول الوطنية والنظم الديمقراطية والثقافة العقلانية الحديثة محل سلطنة العثمانيين الدينية ونظمهم الهمجية وثقافتهم المتخلفة. فقد هزموا فى الحرب الأولى، وأعلن أتاتورك الجمهورية، وألغى الخلافة، وفصل فصلا تاما بين الدين والدولة. وثار المصريون ضد المحتلين الإنجليز، وانتزعوا استقلالهم الوطنى، وبدأوا مسيرتهم الديمقراطية، فماذا حدث لهم؟
عملاء الملك فؤاد فى الأزهر تآمروا على الدولة الوطنية وعلى النظام الديمقراطى وقرروا أن ينقلوا الخلافة لمصر وينصبوا الملك فؤاد خليفة. لكن المصريين فضحوا المؤامرة وقضوا عليها. عندئذ جاء المدد من الصهيونيين الذين تدفقوا على فلسطين فى حماية المحتلين الإنجليز ليضعوا أيديهم عليها خطوة خطوة ويحولوها فى النهاية الى مستعمرة استيطانية تحقيقا لأسطورة أرض الميعاد، ومن ثم كان الرد متمثلا فى جماعة الإخوان التى انبعثت هى الأخرى من الأساطير الدينية الموروثة، وتبنت شعارات الحركة الصهيونية بعد أن ترجمتها ترجمة عربية. فالله هو الغاية وليس الوطن الحر المستقل. والرسول هو الزعيم السياسى وليس سعد زغلول أو مكرم عبيد. والقرآن هو الدستور وليس دستور 1923، والموت فى النهاية هو أحلى الأمنيات!. وهكذا قطعوا علينا طريق النهضة. الصهيونيون والانجليز والإخوان وأعادونا الى ما كنا فيه نتخبط فى ظلمات بعضها فوق بعض.
وأنا مضطر هنا للتوقف، رغم أن الأسئلة كثيرة. وهى تحتاج لإجابات عاجلة أتمنى أن يسهم فى تقديمها الجميع.
نقلا عن الاهرام القاهريه