بقلم - أحمد عبدالمعطى حجازى
رأينا فى المقالين السابقين كيف استطعنا نحن المصريين أن نروض لغتنا العربية الفصحى وننفخ فيها من روحنا ونحولها من لغة غريبة قادمة إلينا من وراء حدودنا إلى لغة وطنية تكشف عن ملامحنا وتنطق بلساننا وتتطور على أيدينا وتستعيد قواها التى فقدتها فى عصور التراجع والانحطاط التى شهدتها الحضارة العربية الإسلامية فى الماضى وتعود للحياة من جديد وتنتمى معنا لهذه العصور الحديثة التى لم نكن نستطيع أن ندخلها إلا بلغة وطنية تتبنى أهدافنا وأحلامنا وتنقل عنا وتنقل إلينا ما نريد، ولم تُكن هذه اللغة تستطيع بالمقابل أن تدخل هذه العصور الحديثة وتتحاور معها إلا بنهضة شاملة ننخرط فيها بكل ما نملك من طاقات وملكات، ونستعيد فيها ما فقدناه من طاقات وملكات.
هل كان باستطاعة محمد على أن ينشئ على أنقاض العصور المملوكية العثمانية هذه الدولة المصرية الحديثة ويوفر لها مؤسساتها ومرافقها المختلفة بدون رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمود الفلكي، ومحمد على البقلى (الجراح الشهير) وغيرهم؟.. الطهطاوى لم يكن يستطيع أن ينقل لنا ما نقله من ثقافة الفرنسيين وعلومهم وفكرهم السياسى وآدابهم إلا بجهود موسوعية كان من بينها كتاب وضعه فى النحو العربى وسماه «التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية»؟ وقد نستغرب حين نقرأ أن محمود باشا الفلكى لم يكتف بالتأليف فى علوم الفلك التى تخصص فيها وإنما ألف أيضا رسالة عن فعل (كان)!.
نحن لم نكن نستطيع الوصول إلى ثقافة العصور الحديثة إلا بلغة عربية حديثة أنشأناها انشاء. ولم نكن نستطيع بناء دولة حديثة نعرف فيها معنى المواطنة، والديمقراطية، والدستور، وحقوق الإنسان إلا بهذه اللغة الحديثة التى كتب بها محمد عبده، وأحمد لطفى السيد، وقاسم أمين، وخطب بها عبد الله النديم، وسعد زغلول، ومكرم عبيد. ومن هنا كان نشاطنا فى ميادين السياسة والعلم والاجتماع مرتبطا بنشاطنا فى ميدان اللغة. وهذه مسألة بديهية. لأننا فى حاجة لتسمية كل جديد والتعريف به. حين أراد الطهطاوى أن يقرب لنا معنى الميثاق الدستورى الذى نجعله أساسا لوجودنا المشترك سماه «الشرطة» بفتح الشين. وهى تعريب للكلمة الفرنسية Charte أى وثيقة. لكن الطهطاوى حمل الكلمة الفرنسية معنى الشرط الذى يلتزمه من يجتمعون عليه. وقد توافقنا بعد ذلك على تسمية هذا الميثاق «الدستور». ونحن لم نكن نستطيع أن نعرب القوانين الفرنسية على اختلافها إلا بلغة تستوعب هذه القوانين وتمكن لها فى ثقافتنا الحديثة وتحولها إلى أصل من أصولها. ونحن لم نكن نستطيع أن نجدد حياتنا العملية والاجتماعية إلا إذا سمينا القطار، والطائرة، والمسرح ، والمتحف، والملعقة، والشوكة، والدبابة، والغواصة، والصاروخ بهذه الأسماء العربية. باختصار، لم نكن نستطيع أن نخرج من عصور الانحطاط وننهض نهضتنا الحديثة بنهضة لغوية كان لابد أن يشارك فيها الجميع، لأن اللغة لا تقوم بفرد أو نخبة، وإنما تقوم بالأمة كلها. ومن هنا كانت اللغة شاهد اثبات على الهوية الوطنية، وكانت مادة فى الدستور، وكان انشاء مجمع اللغة العربية عملا من أعمال النهضة التى أنشأنا فيها الدولة الوطنية، وحصلنا على الدستور، والبرلمان، وأنشأنا الجامعة، وجعلنا التعليم الأولى إلزاميا ومجانيا للمصريين بنين وبنات بنص الدستور، وأحيينا اللغة فى الشعر والمسرح والرواية والمقالة. أحيينا اللغة فى نهضتنا الحديثة، ثم أنهلنا عليها بالطعنات حتى سقطت فى العقود الأخيرة جثة هامدة!.
الآن لا يكاد يصدر كتاب عن أى مؤسسة من مؤسساتنا الثقافية وهو خال من الأخطاء اللغوية والمطبعية. وقبل أيام قليلة، وقعت فى يدى نسخة من كتاب عن يحيى حقى وعلى الغلاف عنوانه المكتوب هكذا: «يحيى حقي. زكريات مطوية» بالزاى لا بالذال. معنى هذا أن كل من شاركوا فى اصدار الكتاب لا يعرفون اللغة، أو لا يعرفون واجبهم. لا الذى أعد الكتاب للنشر، ولا عامل المطبعة، ولا المصحح، ولا المدير المسئول. ولا أظن أن القراء أو غالبيتهم سيكونون أكثر معرفة، لأن التعليم المصرى الآن بكل مستوياته وبكل أدواته فى تدهور مستمر.
فإذا كانت هذه هى حال المؤسسات التى تعلم المصريين لغتهم وتؤهلهم للكتابة بها واستخدامها فى المكتب، والصحيفة، والإذاعة، والندوة، والمحكمة، والبرلمان فبوسعنا أن نعرف الباقي. خريجون لا ينحصر ضعفهم فى اللغة وحدها، بل يمتد إلى كل المواد والعلوم التى درسوها بهذه اللغة. ثم انهم لا يكتفون بأن يكونوا وحدهم المصابين بالركاكة والفهاهة، وإنما ينشرون ركاكتهم وفهاهتهم وأخطاءهم الفاحشة فيمن حولهم، لأنهم يتكلمون ويتناقشون ويقرأون ويكتبون. والنتيجة هى هذه اللغة التى فقدناها!.
هذه الاعلانات التى تلاحقنا وتقطع علينا الطريق وتحاصرنا من فوق ومن تحت، ومن اليمين ومن الشمال بما تحمله من ألوان الطعام والشراب وصور المذيعين والمذيعات والمشتغلين بالسياسة والمستغلين بالطرب والمشتغلين بالفتوى! هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى كتابة أسماء الأجهزة والسلع الأجنبية بالحروف العربية، والأسماء العربية بالحروف الأجنبية، وهذا الاستبعاد المتعمد للفصحي، وهذه العامية المبتذلة ـ هذه الاعلانات، التى ملأت علينا حياتنا ـ حرب معلنة على اللغة وثقافة سوقية نتلقاها من هذه اللافتات المنصوبة أكثر مما نتلقى ثقافتنا من الكتب ونتعلم منها أكثر مما نتعلم فى المدارس، أو نتعلم من الاعلانات ما نمحو به الذى تعلمناه فى المدارس. وهكذا تخصص المليارات التى يدفعها الشعب من قوته لينفقها على تعليم أبنائه، فيأتى رجال الأعمال ليهدموا ما بناه الشعب فى هذا المجال ويحصلوا فوق ذلك على المليارات التى يحصلون عليها بالإعلانات التى يروجون فيها للأمية والسوقية والابتذال وقد تركنا الركاكة تسرح وتمرح وتصول وتجول حتى دخلت كلمات نشيدنا الوطنى. وهذا ما سوف نوضحه فى المقالة القادمة. أما الآن فسوف نعود للسؤال الذى طرحناه فى بداية المقالة السابقة فنطرحه من جديد فى نهاية هذه المقالة!
ما الذى تقوم به مؤسسات الدولة لتنقذ لغتنا الوطنية مما صارت إليه؟ ما الذى تقوم به وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي، والثقافة، وأجهزة الاعلام الحكومية، ومجمع اللغة فى التنبيه لهذه الأخطار المحدقة باللغة وفى التصدى لها؟.
الإجابة فى الاسبوع المقبل.
نقلا عن الاهرام القاهرية