بقلم - أحمد عبدالمعطى حجازى
يجب أن يعترف الصهيونيون ومن شجعهم وتبنى أساطيرهم وساعدهم فى انشاء مستعمرتهم فى فلسطين بمسئوليتهم ليس فقط عما حدث ويحدث حتى الآن للفلسطينيين الذين أخرجوا من وطنهم ووطن آبائهم وأجدادهم وشردوا فى البلاد تحت سمع العالم وبصره، وحكم عليهم بالموت حتى وهم على قيد الحياة. لأن الحياة فى معسكرات اللاجئين حياة بلا شكل ولا معني. لا ماضى لها ولا مستقبل. ولا عمل ولا أمل. لا طفولة ولا كهولة. لا حب، ولا قرب، ولا جوار، ولا صداقة. لا تقاليد ولا قوانين. الحياة لا تكون بغير تراب يولد فيه الإنسان وينتمى له ويموت فيه. لا تكون بغير وطن يعرف فيه ماضيه ويبنى مستقبله مع غيره ممن ينتمون لما ينتمى له ـ أقول ان على الصهيونيين ومن والأهم أن يعترفوا بمسئوليتهم ليس فقط عما حدث للفلسطينيين بل عما حدث لنا نحن أيضا!
لقد تسبب المشروع الصهيونى فى ايقاف حركة النهضة فى مصر وفى بلاد المنطقة كلها وفى إعادتنا إلى ما كنا عليه فى أيام الأتراك العثمانيين حين كانت حياتنا تكرارا مملا قاحلا لماض قاحل لانعرف فيه الا ما يعرفه شيوخنا من الدين ويخلطون فيه بين العلم والخرافة، بين ما يجب أن نعرفه بالعقل وما لا نستطيع معرفته إلا بالنقل، وعلى هذا النحو كانت حياتنا تسير وكنا نسير فيها، لا نتمتع بوعي، ولا برخاء، ولا حرية. لا حق لنا فى أن نسأل أو نجيب، أو نفكر أو نجدد حتى وجدنا أنفسنا وحدنا تماما فى مواجهة الأخطار التى داهمتنا حين دخل الفرنسيون بلادنا حاملين البنادق والمدافع ومعها علوم العصور الحديثة وأدواتها فقاومناهم بصدورنا وحاورناهم بعقولنا فلم يمض بعد رحيلهم فى العام الأول من القرن التاسع عشر إلا ثلاثة عقود، ثلاثون عاما بالضبط عاد بعدها رفاعة رافع الطهطاوى من بعثته فى فرنسا يترجم لنا الدستور الفرنسى ويحدثنا عن مونتسكيو وكتابه «روح الشرائع» وعن روسو وكتابه «عقد التأنس والاجتماع الإنساني»، ويملك مع هذا الأدوات التى استطاع بها هو وتلاميذه أن يفتحوا لنا أبوابا دخلنا بها عصر النهضة وتحولنا إلى قوة فتية مرهوبة، تضع يدها على الجزيرة العربية، والسودان حتى منابع النيل، وبلاد الشام حتى تركيا، وبنينا دولة تقوم على الرابطة الوطنية لا على الرابطة الدينية والطائفية، وتنتقل فيها السلطة السياسية خطوة بعد خطوة من الطغيان الموروث إلى الديمقراطية وحكم الدستور على النحو الذى تم بعد ثورة 1919 عندنا وبعد سقوط الخلافة العثمانية المريضة وتحول ولاياتها العربية إلى دول وطنية فى سوريا ولبنان والعراق.
ما الذى حدث بعد ذلك؟
حدث بعد ذلك أن المستعمرين الأوروبيين الباحثين عن المواد الخام الرخيصة والأسواق المفتوحة والقواعد العسكرية وضعوا ايديهم على البلاد التى تحررت من الأتراك العثمانيين فى الوقت الذى أرادوا فيه أن يتخلصوا من اليهود الذين رفضوا الاندماج فى مجتمعاتهم الأوروبية كما كان هؤلاء اليهود يبحثون لأنفسهم عن مستعمرة أو «جيتو» فى صورة دولة ينغلقون فيها على أنفسهم ويجسدون أساطيرهم. وقد وقع اختيار الطرفين على فلسطين أو أرض الميعاد كما يسميها اليهود فى قصصهم الدينية فأصدر بلفور وزير الخارجية البريطانية عام 1917 وعده الذى أعلن فيه تعاطف بريطانيا مع الأمانى اليهودية فى إنشاء وطن قومى فى فلسطين! وهو الوعد الذى تحقق بعد أن احتل البريطانيون فلسطين فى نهايات الحرب العالمية الأولى وفتحوها على مصراعيها للمهاجرين الصهيونيين المزودين بخطط هرتزل وأموال روتشيلد. هكذا حلت المستعمرات الدينية الصهيونية فى فلسطين محل سلطنة العثمانيين و«خلافتهم» الإسلامية.
فما الذى حدث بعد ذلك؟
الذى حدث بعد ذلك هو رد الفعل الذى يماثله فى مرجعيته الدينية من ناحية ويعاكسه فى الاتجاه من ناحية أخري، وهو ظهور جماعة الإخوان التى اعتبرت النهضة المصرية فسادا مطلقا وخروجا على الإسلام، وأعلنت أن الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، ودستور وقانون.. إلى آخر هذه الشعارات الزاعقة التى توالت الحوادث وتوافقت المصالح على الوصول بها إلى ما نراه الآن ورأيناه من قبل فى مصر، والسودان، وتونس، وليبيا، والعراق، واليمن، وسوريا، ولبنان.
مصر التى أعلنت فى نهضتها الحديثة أن «الدين لله والوطن للجميع»، وأسقطت المحاولات التى بذلت لنقل الخلافة إلى مصر، ودافعت عن الدستور الذى فصل بين الدين والدولة، ومكنت مكرم عبيد، وسينوت حنا، وفخرى عبدالنور وغيرهم من أداء دورهم القيادى فى الحركة الوطنية جنبا إلى جنب مع سعد زغلول، والنحاس، وأحمد لطفى السيد، وعبدالعزيز فهمي، وحسن الباسل، والتى احتضنت أبناءها اليهود كما احتضنت أبناءها المسيحيين ومكنت فى النشاط الاقتصادى لشيكوريل وسوارس، وقطاوى الذى اسهم فى بنك مصر، وانتخب فى أول برلمان مصرى بعد ثورة 1919 وعين وزيرا للمالية، ثم وزيرا للمواصلات، وانتخب أيضا فى مجلس الشيوخ.
ومكنت فى الأدب والفن ليعقوب صنوع المسرحي، ومراد فرج الشاعر، والملحن داود حسني، والمطربة ليلى مراد، والمخرج السينمائى توجو مزراحى مصر هذه لم تعد بعد الاخوان كما كانت قبلهم.
والذى حدث فى مصر حدث فى لبنان وسوريا. بشارة الخورى وقف جنبا إلى جنب رياض الصلح فى العمل من أجل الاستقلال فى لبنان، وفى سوريا كان فارس الخورى نائب دمشق فى مجلس المبعوثين ورئيس مجلس النواب بعد ذلك ورئيس الوزارة.
والآن؟
الآن، الأحزاب الدينية، الإخوان، والسلفيون، وداعش، وحزب الله، وحماس، والحوثيون، وحزب البشير والترابى والقرضاوى فى البلاد العربية، فضلا عن حزب الخمينى فى إيران، والطالبان فى أفغانستان، والجماعة الإسلامية فى باكستان.. هؤلاء هم أصحاب الصوت العالى وأصحاب السلطة فى معظم هذه البلاد، ومثلهم فى إسرائيل المزراحي، والمفدال أى «الدينى القومي» وتامى وموراشا وغيرها من الأحزاب الدينية هى صاحبة الصوت العالى فى اسرائيل الآن!
نقلا عن الاهرام القاهرية