فى حرب أكتوبر استطعنا أن نعبر القناة وأن ندفع أعداءنا الصهاينة إلى مضايق سيناء. وفى معاهدة كامب ديفيد تمكنا من إجلائهم عما ظل فى أيديهم من شبه الجزيرة. لكن العدوان الصهيونى على فلسطين وعلينا وعلى المنطقة كلها مستمر متواصل. لأن مصدر العدوان باق مستقر، وهو الكيان الصهيوني. ولأن عدوان هذا الكيان علينا ليس مجرد عمل عسكرى نستطيع أن نتصدى له ونوقفه. وإنما هو أيضا التأثيرات الفكرية والسياسية السلبية التى تعرضنا لها كرد فعل للمشروع الصهيونى وتمثلت فى جماعات الاسلام السياسى التى أعلنت الحرب على نهضتنا الحديثة ودمرت الكثير مما بنيناه فيها، وتحولت إلى عنف سافر وإرهاب مسلح بالدين لا يقل خطرا وشرا عن الإرهاب المسلح بالدين المتمثل فى الكيان الصهيوني.
وقد أشرت فى مقالة الأربعاء الماضى للأسباب والظروف التى ساعدت على قيام الحركة الصهيونية وفى أعقابها جماعة الإخوان التى يمكننا أن نقول انها نسخة مقلدة من الحركة الصهيونية وإن هذه الحركة هى التى هيأت الجو للإخوان وأفسحت لهم الطريق. وهذا ما نستطيع أن نراه بوضوح فى التواريخ والأحداث التى صاحبت ظهور الحركة الاستعمارية والجماعة الإرهابية وساعدتهما فى الوصول إلى ما وصلتا إليه حتى الآن.
الحركة الصهيونية المسلحة بعلوم العصر وخبراته وبأموال الرأسماليين اليهود والمدعومة بالقوى الاستعمارية نجحت فى اقامة مستوطناتها فى فلسطين، وفى تحويل هذه المستوطنات إلى دولة قامت على الأرض التى يعتقد اليهود أن الله الذى فضلهم على أمم الأرض كلها منحهم إياها ووعدهم بأن يعيدهم إليها بعد أن رحل أسلافهم عنها وتفرقوا فى مختلف البلاد قبل ألف وثمانمائة عام. وقد تحقق هذا الوعد فى هذا العصر الذى نعيش فيه على أيدى الصهيونيين الذين اعتبروا المجاز الدينى حقيقة موضوعية، وخلطوا بين العقيدة الدينية المشتركة وبين الرابطة القومية، وحولوا مستوطناتهم فى فلسطين إلى معامل لإنتاج البشر أعادوا فيها تشكيل اليهود ليتحولوا من طوائف دينية إلى جماعة وطنية.
وأما حركة الإخوان التى انطلقت هى الأخرى من الدين، وخلطت بينه وبين السياسة فقد سارت بالضرورة فى الاتجاه العكسي. لأن الخلط بين الدين والسياسة فى مصر يعيد المصريين إلى ما كانوا عليه فى العصور الوسطى ويحولهم من أمة تعد أقدم أمة فى العالم إلى طوائف دينية متفرقة، وينقلهم من الحياة التى عرفوها فى نهضتهم الحديثة وناضلوا فى سبيلها وعرفوا معنى الحرية والكرامة الإنسانية إلى الحياة التى عاشها أسلافهم فى ظل الغزاة الأجانب الذين استعبدونا باسم الدين.
وإذا كانت الصهيونية قد صنعت ما صنعته فى فلسطين بأدوات العصور الحديثة وشعاراتها وخبراتها الاستعمارية فالإخوان لم يعرفوا من العصور الحديثة هم ومن تتلمذ عليهم وانحدر منهم إلا تفخيخ السيارات وخطف الطيارات واغتيال الخصوم. أما الباقى فقد استعاروه كله من العصور الماضية. حكم الطغاة، والتطرف الديني، وكراهية العقل، واحتقار النساء، واضطهاد المخالفين. فإذا كان الصهيونيون قد تمكنوا من تحويل الأسطورة الدينية إلى أمر واقع فالإخوان صنعوا العكس. هدموا ما بنيناه فى هذا الواقع وحولوه من حاضر إلى ماض ومن واقع إلى أسطورة!
غير أن هذه الفوارق كلها لا تنفى الأساس المشترك الذى يجمع بين حركة الإخوان والحركة الصهيونية ولا تخفى العلاقة العضوية القائمة بينهما. فإذا كانت الوسائل مختلفة والغايات متضاربة فهذا راجع قبل كل شيء للفرق بين الفعل المتمثل فى الحركة الصهيونية ورد الفعل المتمثل فى جماعة الإخوان. الفعل إيجاب ورد الفعل سلب. ومع هذا فوجوه الشبه بين الحركتين أكثر من وجوه الاختلاف.
حين نقارن بين النظام السياسى الذى أقامه الصهيونيون فى إسرائيل والنظم التى أقامتها جماعة الإخوان وغيرها من جماعات الإسلام السياسى فى مصر، والسودان، وإيران، وأفغانستان، وباكستان، وتركيا تحكم بأن إسرائيل ديمقراطية، وأن السلطة فى هذه البلاد الإسلامية انفراد واستبداد. لكننا نسأل أنفسنا عما صنعه الإسرائيليون مع الفلسطينيين أصحاب البلد وعما يصنعونه معهم حتى الآن فبماذا نجيب؟ هل تجتمع الديمقراطية مع اغتصاب الأرض والاحتكام للأساطير، واتخاذها حجة لمصادرة حق الناس فى الحياة والأمن؟
الجواب: لا! فالديمقراطية وهذا الظلم الرهيب الصارخ لا يجتمعان. لأن الديمقرطية لا تقوم بالقوة ولا تتفق مع القهر، وإنما تقوم بالقدرة على تمثيل أصحاب الحق وانكار الذات، فلابد فى الديمقراطية من الضمير اليقظ وإلا كانت شكلا بلا روح.
ونحن نرى أن الفلسطينيين الذين لا يخالجهم شك فى أنهم أصحاب البلد، وأن فلسطين كلها لهم وافقوا فى النهاية على أن يقتسموا وطنهم مع هؤلاء الأغراب المستعمرين، ونرى فى المقابل أن هؤلاء الأغراب المستعمرين الذين كانوا يتباكون أمام العالم طالبين الحماية من أعدائهم الذين كانوا يهددون بإلقائهم فى البحر ـ هؤلاء لم يعودوا يكتفون بالشطر الأكبر الذى اغتصبوه وإنما يريدون فلسطين كلها!
ونحن نرى أن الأحزاب الإسرائيلية التى قامت على التوفيق أو التلفيق بين الصهيونية والاشتراكية وتولت السلطة فى العقود التى تلت قيام الدولة كالمابام والماباى هذه الأحزاب تراجعت فى العقود الأخيرة بعد أن أدت وظيفتها وحل محلها الليكود، وحركة أرض إسرائيل وغيرها من الأحزاب الدينية والعنصرية التى تحالفت واتفقت على الاحتفاظ بكل الأراضى الفلسطينية ومصادرتها، وبناء المستوطنات فيها، وعدم التسليم للفلسطينيين بأى حق. أليس هذا طغيانا؟ وهل يتفق هذا الطغيان مع ديمقراطية إسرائيل؟
والسؤال الذى يجب أن نوجهه لأنفسنا هو: إلى متى نظل أسرى لثقافة الخلط بين الدين والدولة؟ ألم يئن لنا أن نتحرر من هذه الثقافة التى لم تكن إلا ردا سلبيا على الحركة الصهيونية خرجنا به من عصور النور وعدنا إلى عصور الظلام؟!
نقلا عن الاهرام القاهريه