بقلم : جميل مطر
أحد أهم الأسئلة فى عواصم الغرب وفى العاصمة الصينية هو السؤال الخاص بالمرحلة الجديدة فى رئاسة فلاديمير بوتين، وبالتحديد ما إذا كان الرئيس الروسى سينجح فى حل أهم معضلات روسيا فى هذه المرحلة من حياته السياسية قبل أن يتولى القيادة زعيم آخر. هناك على الأقل ثلاث مسائل سوف تضغط على الرئيس بوتين لحلها، اثنتان ورثهما نظامه من المرحلة السوفييتية وعصر الحرب الباردة، وواحدة من صنع بوتين ونظام حكمه وإن كان من الصعب فصلها تماما عن المسألتين الأخريين.
المسألة الأولى: لا مبالغة فى القول بأن نظام حكم الرئيس بوتين لم ينجح تماما فى إخراج المجتمع الروسى من حال الركود السياسى والاقتصادى الذى ورثه عن النظام السوفييتى، وقد يذهب بعيدا محللون من داخل صفوفنا غير المنحازة أيديولوجيا فيعلنون أن هذا الركود علامة تكاد تكون ثابتة، بل تكاد تكون لصيقة ببعض سمات المجتمع الروسى منذ عصر القياصرة. تحولت روسيا بالتأكيد إلى مجتمع صناعى بامتياز خلال حكم الشيوعيين، ولكنها لم تنطلق اقتصاديا كقوة اقتصادية يحسب لها حساب فى النظام الاقتصادى العالمى. توسعت روسيا فى أوروبا وآسيا بفضل دورها العسكرى وتحالفها مع الغرب ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان فاستحقت أن تحتل المقعد الثانى فى القمة الدولية كقطب فى نظام دولى ثنائى القطبية، إلا أنها لم تترجم هذا الموقع الدولى تطورا سياسيا داخليا. بمعنى آخر لم تتمكن من الخروج من دائرة الركودين، وهى الدائرة التى أعاقت فعلا وواقعا إمكانية نهوض طبقة إصلاح تلتزم تحقيق التحول فى الاقتصاد كما فى السياسة.
لا يفوتنى الإعراب عن اعتقاد قوى بأن دائرة الركودين هى السبب فى أن تلتصق بالنظام الروسى وصمة توصم بها عادة أنظمة الديكتاتوريات المتخلفة. نرى عالمنا المعاصر وقد تكاثرت فيه أنواع شتى من الأنظمة السلطوية، أغلبها يبحث عن نظام سلطوى فى دولة قوية يتمسح به ويستخدم إنجازاته مبررا لوجوده. اليوم تخشى أنظمة سلطوية التحالف مع روسيا خشية اتهامها بما تتهم به روسيا من تدبير عمليات اغتيال لمعارضيها واستخدام درجة عالية من القمع والبطش وفشلها فى إقامة مؤسسات تضمن حدا أدنى من الرعاية الاجتماعية لعامة الشعب وتلتزم مكافحة الفساد. هكذا تقدمت الصين تحت قيادة الرئيس شى تطرح نفسها البديل المناسب لقيادة تحالف أو تجمع سلطوى عالمى، فسمعة نظام الحكم السلطوى فيها أحسن من سمعة نظام حكم الرئيس بوتين.
المسألة الثانية: تدهور العلاقات مع الغرب. ليس جديدا أن يكون الحب مفقودا بين روسيا والغرب. لم تكن العلاقات بينهما طيبة فى عصر القياصرة ولم تكن طيبة فى عهد الشيوعيين وهى ليست طيبة الآن. الجديد هو فى تدهورها المتسارع خلال السنوات الأخيرة إلى الحد الذى صار يدفع كثيرين فى جامعات الغرب إلى إطلاق صفة الحرب الباردة على حال العلاقات بين روسيا والغرب. يمس هذا التدهور المتسارع ثلاث قضايا مترابطة. أولاها الحال النفسية التى خلفتها سنوات بوريس يلتسين والمهانة الشديدة التى تعرضت لها شعوب روسيا بسبب تدخلات دول الغرب وأمريكا خاصة فى الشئون الروسية. لا يزال الغرب متهما فى روسيا بارتكاب أعمال أساءت إلى روسيا وعلاقاتها بدول الجوار. ثانيها الحرب المستمرة فى أوكرانيا. هذه الحرب يجب أن تتوقف إذا رغب الغرب وروسيا صدقا فى وقف تسارع التدهور فى العلاقات بينهما. فى رأينا لن تتوقف هذه الحرب فى الأجل المنظور؛ لأنها تؤدى وظيفة هامة لخدمة أهداف أنصار استمرار حال العلاقات السيئة وهم ليسوا قلة فى كلتا الناحيتين. ثالثها: إصرار الغرب على انتزاع دول فى القوقاز وشرق ووسط أوروبا، ومنها أوكرانيا، من دائرة نفوذ روسيا. وفى روسيا إصرار مقابل وربما أشد على استعادة نفوذ روسيا أو إعادة بسطه فى هذه المنطقة. يعرف القادة الروس أنه لا أمل فى استعادة مكانة روسيا الدولية كقطب أعظم أو طرفا أصيلا فى أى قيادة دولية جديدة إلا إذا نجحت موسكو فى تثبيت نفوذها فى جميع أقاليم الجوار كما كان الحال فى العهد السوفييتى.
المسألة الثالثة: مصير سوريا ودور لروسيا فى الشرق الأوسط. كثيرون صاروا يحذرون صانعى السياسة الروسية من مغبة الاستمرار فى المغامرة السورية نحو مصير شبيه بمصير المغامرة الأفغانية. يعتقدون أن أطرافا غربية وأطرافا أخرى دفعت الروس وتدفعهم للاستغراق فى ممارسة اللعبة الخبيثة الجارية فى سوريا. حدث شبيه بهذه الغواية وقع فى عقد الثمانينيات وكانت النهاية كارثية ليس فقط بالنسبة لروسيا بل وللاتحاد السوفييتى ولأفغانستان. يرسمون فى نهاية النفق لوحة تظهر فيها روسيا فى دور المخلص لسوريا ولوحة أخرى لروسيا الدولة الأعظم المهيمنة من مواقعها وقواعدها ورجالها من عسكر روسيا ومرتزقيها ومن السوريين وربما أيضا من الأتراك والإيرانيين، على إمبراطورية غاز ونفط وطرق مائية وجوية وبرية يتوقف على استقرارها وأمنها رخاء الدول العظمى جميعها وفى مقدمتها الصين. يعتقد قادة روسيا الجديدة أن الثمن باهظ ولكن العائد أيضا رائع بحسابات الطموح الروسى لاستعادة المكان والمكانة بين الأقطاب الأعظم.
قد لا يكون الرئيس بوتين ومستشاروه منتبهين إلى أن العسكريين الأمريكيين وخصوم روسيا التقليديين فى أوساط الطبقة السياسية الأمريكية نصبوا الفخ لروسيا ويستعدون الآن لمغادرة سوريا. يدرك الأمريكيون أكثر من غيرهم استحالة الجمع بين مهمتين، مهمة تحقيق الاستقرار والأمن فى بلد مثخن بالجراح والحروب ومفعم بالكره والإحباط، ومهمة إعادة الإعمار وبناء دولة وإعادة ملايين اللاجئين، وكثير منهم يعود إلى أرض غير أرضه ومسكن غير مسكنه. أعتقد أنه فى يوم غير قريب يمكن أن نرى الروس عاجزين عن توفير المال العربى اللازم لتحقيق سلم سورى، أو نراهم نادمين على ما جناه غرورهم واعتدادهم بخبراتهم وتجاربهم السابقة فى الشرق الأوسط. كان جديرا بهم أن يسألونا لنخبرهم بأن هذا الشرق الأوسط الذى يظنون أنهم عارفون بدروبه ومسالكه وملمون بطبائع أهله ليس هو الشرق الأوسط الذى يعودون إليه ويحلمون بفرض هيمنتهم عليه وطرد الغرب منه.
روسيا الراهنة دولة عملاقة بإمكانات عالمية هائلة ولكن بمصالح أغلبها إقليمية أى غير عالمية. أظن أن نظام الرئيس بوتين لم يفلح حتى الآن فى أن يحصد لروسيا فى الغرب أو خارج الغرب إعجابا أو انبهارا من أى نوع يقترب مما كان يحصده أسلافه خارج الغرب فى بعض مراحل الحرب الباردة. هذا لا يعنى بأى حال أنه لن يحاول صنع شعبية لروسيا أو نظام حكمه منتهزا فرصة انهيارات الثقة المتتالية فى قدرة أمريكا والغرب عموما على حل مشكلات العالم.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع