كثيرا ما تحدثنا فى إحدى مجموعاتنا الكلامية عن تطور العلاقة بين المرأة والرجل عبر العصور. أذكر أن ما خلصنا إليه من مناقشات طويلة هو أن مسيرة هذه العلاقة لم تكن دائما أحادية الاتجاه. ففى معظم المراحل بدا لنا الرجل مهيمنا على العلاقة وبدت المرأة راضية وسعيدة بوضعها تحت الهيمنة مستفيدة هى وأطفالها من الحماية التى تأتى مع هذه الهيمنة. وفى مراحل أخرى فرضت المرأة نفسها لتتولى بنفسها إدارة العلاقة بين الطرفين، هنا أيضا بدا الرجل ــ فى حالات غير قليلة ــ هانئا وهادئا وراضيا. علقت بخيالنا عن الوضع الأول حين كانت الهيمنة للرجل صورة امرأة يجرها الرجل البدائى من شعرها بيد وفى اليد الأخرى عصا غليظة يهش بها الوحوش فتطمئن امرأته إلى أنها فى حماية من يقدر على حمايتها. علقت فى خيالنا عن الوضع الثانى صورة «كالى» الإلهة الهندوسية صاحبة الأذرع المتعددة المتعطشة دائما للهوى والجنس وتحت قدميها يجلس القرفصاء الإله «شيفا» ينفخ فى الناى سعيدا بمهمة إمتاعها بالموسيقى وأشياء أخرى. كل وضع من الوضعين المتخيلين يمثل نموذجا متطرفا ولكنه غير بعيد تماما عن الحقيقة فى زمن أو آخر.
فى بداية جلسة من تلك الجلسات التى خصصناها لتطور العلاقة بين الرجل والمرأة عبر الأزمنة والأزمات والكوارث طلبت ابنة العشرين أن تستفسر. عرضت قضيتها مركزة على أمور فى علاقتها بالرجال لم تفهمها أو لعلها لم تقدرها. قالت: «أنا لم أقع فى الحب وقد بلغت العشرين. مازلت لم أحظ بإجابة شافية عن سبب إصرارنا بلغات عديدة على معنى الوقوع فى الحب. لماذا نسميه وقوعا وليس فعلا آخر. على كل حال جئت هنا لأننى أردت أن أسمع حكم الخبراء فى فتاة تجاوزت سن المراهقة ولم (تقع) فى الحب. أتوقع إجابة تطمئننى إلى أن الحب قادم لا محالة وأننى ما زلت صغيرة ولم تأت بعد فرصة مناسبة، مع العلم بأن كل صديقاتى ــ ومنهن من تجاوزن منتصف العشرين ــ لم يقعن فى الحب. أسأل أيضا إن كان غياب الحب شرطا من شروط الانتقال السلس إلى ما تسمونه عصر الحداثة وتعددية الثورات، أم أنه مؤشر على بداية ليبرالية جديدة تنمو وتترعرع فى ظلال القمع السياسى والعاطفى. لا أظن أن أحدا فى الغرب مَصْدرِ وَحْيِكُم اختار بالفعل عنوانا لهذه الليبرالية الجديدة أو استطاع أن يتوصل إلى تعريف جذاب لعقيدة تهمل الحب وتطارد المحبين والعشاق وتفضل عليهم المتحرشين والمنافقين.
سمعت منكم، ومن أهلى، أى من كل الكبار الذين أحترمهم، الاتهام بأننا ــ أبناء وبنات هذا الجيل ــ لا يختلط بعضنا بالبعض الآخر كما ينبغى أن نختلط. تطلبون منا المستحيل. تعرفون أنه لم يعد يوجد فى بلدنا هذه المساحات الهادئة والمنعزلة لنلتقى آمنين ومطمئنين. وأظن أنه لم يعد يوجد فى قواميسنا كلمات كالكلمات التى كنتم تتبادلونها وأنتم تراهقون. وأخشى القول إنه لم يعد يتوافر لدينا الصبر اللازم لقضاء وقت فى لقاءات ثنائية نتبادل فيها النظرات وتتلامس الأيدى ونحلم معا فى عوالم تخيلية غير تلك التى أخذتنا إليها وأسكنتنا فيها أجهزة اتصالاتنا وتواصلنا الحديثة.
سألناها «مع أى نوع من الذكور تختلطين؟» أجابت: «تسألوننى السؤال الصعب. أعتقد أننى ورفيقاتى لا نفكر كثيرا فى أن نصاحب ذكورا بالمعنى التقليدى الذى يتضمنه سؤالكم. لعلمكم: لا يوجد فى أى شلة تضمنى شاب واحد أستطيع أن أقول إنه يشبه فى تصرفاته أبى أو عمى أو أحد أخوالى. لا أتخيل شابا نخالطه سوف يكبر ويصير رجلا مثلهم. هو واحد منا وليس مختلفا عنا. يرقص عندما نرقص وعندما لا نرقص. نظيف المظهر ويستخدم العطور كما نفعل، لا نشم حوله رائحة الذكور التى نشمها أحيانا فى طوابير حجز تذاكر دور السينما. لا يحكى متفاخرا ببطولاته فى أى مجال إلا ربما ألعاب الفيديو وحلبات الرقص التى نتشارك فيها ونتنافس. يتعاطف مثلنا وربما أكثر قليلا مع ضعاف الحال والجسد والمساكين. أرى فى نظرة واحد منكم على الأقل لمحة سخرية مشوبة بالاشمئزاز».
تدخل أحدنا مقاطعا: «تقصديننى طبعا.. لا بالتأكيد لم أقصد السخرية.. إنما تذكرت المؤرخ الأمريكى آرثر شلزنجر الذى أعلن فى الخمسينيات استنكاره الشديد للذكر الأمريكى الجديد ابن مرحلة الرخاء التى أعقبت الحرب. ووصف أبناء هذا الجيل من الذكور بالمخصيين بسبب انبهارهم ــ كالنساء ــ بالضعفاء والفقراء والمساكين. شلزنجر وعديدون من مفكرى هذه المرحلة كانوا يترحمون على عصر «الليبرالية العضلية» حين انشغل ذكور أمريكا بحروب (تحريرها من الهنود الحمر) وتوسيع رقعتها حتى صارت تمتد من محيط إلى آخر. فى السياق نفسه كتب أليكسى دى توكفيل المفكر الفرنسى يصف الرجل كما يجب أن يكون، هو هذا الفرنسى الخشن الطباع والقاسى القلب الذى حارب عرب شمال إفريقيا واحتل الجزائر. تعرفون طبعا أن رجال البورجوازية الأوروبية كانوا يبعثون بأولادهم الذكور إلى مدارس داخلية لينشَئُوا بعيدا عن حنان الأمهات وتدليلهن وبعيدا عن الاختلاط بشقيقاتهن من الإناث وبعيدا عن الفقراء والضعفاء. حجتهم أنهم يريدون أن يكبر أولادهم كرجال».
استطرد الصديق المتحدث قائلا: «الرجولة تراجعت، أو هكذا فكر مفكرون عديدون. يعتقد أحدهم ويذهب مذهبه آخرون أن بن لادن أعلن سقوط الرجل الغربى وبخاصة الرجل الأمريكى. فى رأى هؤلاء أن فيتنام كسرت رجولة أمريكا. أما أنا فأعتقد شخصيا أن هزائم أمريكا فى حروبها المتعددة خلال الحرب الباردة ساهمت جميعها فى انكسار هذه الرجولة، فضلا عن حقيقة أخرى وهى أن الانكسار بدأ مع تحول الإنسان من العمل اليدوى إلى العمل المكتبى. ومن قبل هذا التحول كان للثورة الصناعية دور فى تحول أهم ألا وهو ربط الإنسان بالآلة. هناك اختلطت القوتان، قوة الآلة والقوة العضلية. انتصرت الآلة وانهزم الرجل. منذ ذلك الحين يحاول الرجل تعويض النقص فى هيمنته بإثبات قوته ولو مظهريا. كم من زعيم فى عالمنا المعاصر عجز عن تحقيق كل آماله وطموحاته فراح مستشاروه ينصحونه بممارسة رياضة السباحة فى البحار الجليدية أو الركض فى الصباح الباكر أو ركوب الحصان بنصف جسد عار كما يفعل الرئيس بوتين أو مخالطة النساء علانية والتباهى بهن وبجسده الضخم كما يفعل الرئيس ترامب. رؤساء وسياسيون كثيرون أشعلوا قضايا قومية ليكتسبوا من فكرة بناء الدولة القوية قوة شخصية لهم تعوض ضعفهم وضعف مجتمعاتهم فى نواحٍ أخرى. ألم يكن بنيتو موسولينى واحدا من هؤلاء».
طلبت الصديقة الأكبر عمرا بين نساء المجموعة التصريح لها بالتعقيب، فقالت بأنها توافق على الرأى بأن النظرة إلى الرجولة اختلفت عبر العصور. «كيف ننسى أن رجالنا عاشوا فى وهم المسلسل التليفزيونى الشهير (مهمة مستحيلة) ووهم ما يسمى الرجال الأبطال من نوع رامبو وجيمس بوند وأرنولد شوارزنجر وسوبرمان والرجل الوطواط. ألم نشعر نحن النساء وقتها بأن رجالنا بإقبالهم على هذه الأفلام وتعلقهم بهؤلاء الأبطال كانوا يحاولون اكتساب قوة يعوضون بها عجزا فى مجالات شتى. تذكرون ولا شك أن معارضين للحرب اتهموا الرئيس روزفلت ــ وكان مقعدا ــ بأنه شن الحرب على دول المحور تعويضا عن ضعفه الجسمانى. أتفق شخصيا مع كل من يقول إن الانضمام لداعش والقاعدة ومنظمات إرهابية عديدة يخفى رغبة ملحة فى تعويض العجز فى الرجولة، سواء فى معانيها التقليدية أو المعانى العصرية. تذكروا معى تصريحات السفاح النرويجى الذى قتل عشرات الأطفال فى رحلتهم الترفيهية وبخاصة ما قاله عن أن الفايكنج كانوا آخر الرجال».
اعتذرت لابنة العشرين من أننا ركزنا على الرجال متجاهلين حقيقة أن المرأة ربما تغيرت أكثر مما تغير الرجل. سمعت من يبالغ ويفتى بأن المرأة وليس الرجل وراء التغير الجوهرى فى الفهم المعاصر لمفهوم الرجولة. قاطعتنى ابنة الثلاثين وخريجة كبرى جامعات كندا وقالت إن لكل مرحلة نساءها. «نحن النساء لسنا نسخا من طبعة واحدة. لقد صدرت منا عبر القرون طبعات عديدة منقحة ومزيدة وطبعات أخرى مبتسرة أو تفى بالغرض. أنا لست من طبعة حواء والسيدة خديجة ولكن ربما كدت فى مرحلة أن أكون نسخة من طبعة ستنا مريم العذراء والقديسة تيريزا وبالتأكيد لست نسخة من طبعة حريم السيد دونالد ترامب ابتداء بدانيلز العاصفة وانتهاء بميلانيا المقهورة. من منكم يا أصدقائى قرأ كتاب هارفى مانسفيلد أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد بعنوان الرجولة والصادر عام 2006؟. مانسفيلد يستنكر واقع خروج المرأة للعمل لأنها بذهابها إلى عمل خارج البيت وحصولها على أجر وإقامتها علاقات بمؤسسات خارج العائلة نسفت فعليا دور الرجل المخصص لحمايتها. اليوم ليس من حق أحد أن يدعى بأن وظيفة الرجال حماية النساء وأطفالهن. هكذا نكون نحن النساء قد تخلينا طوعا عن هذا الحق الموروث منذ فجر التاريخ فى الاطمئنان إلى الرجل كمظلة حماية. رحنا جميعا كنساء نقيم مظلات حماية بعقد اتفاقات مع الدولة أو الشركة أو المؤسسة التى نعمل فيها أو بإقامة صداقات وصفقات مع أشخاص آخرين ليس بينهم بالضرورة رجالنا. تغيرنا كنساء وتغير فهمنا لمفهوم الرجولة».
استطردت الصديقة من كندا تقول: «من ناحية أخرى لم يقع نيال فيرجسون فى خطأ جوهرى ــ علما بأن لهذا الاقتصادى الشهير أخطاء عديدة ــ حين لفت نظر الناس عامة إلى أن فتيات عصرنا لا يلعبن بدمى كتلك التى لعبت بها أمهاتنا وجداتنا. بمعنى آخر لدينا الآن وفى المستقبل، من وجهة نظره، نسوة مختلفات عن كل نساء التاريخ اللائى لعبن بعرائس ورقية أو قماشية أو حجرية. نسوة اليوم عاطفتهن بالتالى أقل دفئا وأبطأ استجابة من عاطفة قدامى نسائنا. الأهم والأخطر أنه يلوم المرأة المعاصرة التى تسببت فى (إفقار الديمجرافيا الأوروبية) وشيخوخة مجتمعات أوروبا. شاخت أوروبا منذ تغيرت أنوثة المرأة.
إن صدق فرجسون فى تحليله فالبشرية فى هذه الحالة مرشحة لأزمة مركبة فى العلاقة بين امرأة تغير دورها ونظرتها إلى نفسها ورجل تغيرت مواصفاته ونظرته إلى دوره ومكانته ومناحى قوته وضعفه. كيف ننكر كنساء أننا لم نعد نقبل كل ما يعرضه الرجل والمجتمع علينا دون تفكير متأن. نحن الآن أحرار وربما إلى درجة لم نحلم أن نصل إليها. البعض منها، وهو غير قليل العدد، يقع فى حب نساء أخريات وليس فى حب رجال. من ناحيتنا، ونحن الأغلبية فى مضمار حركة تحرر النساء، نريد أن نتمتع بثمار جهودنا وثورتنا. نريد تحقيق أقصى نجاح فى المدرسة والجامعة والمكتب والبيت والفراش، كله بجودة عالية وكفاءة متناهية.
كلمة أخيرة وبعدها أنسحب من اجتماعنا راضية وسعيدة. دعونا لا ننسى أن سنوات قليلة تفصلنا عن هيمنة طرف ثالث سوف يقتحم حتما عموم وتفاصيل العلاقة بين الرجل والمراة. هذا الطرف باقتحامه قد يتولى بنفسه تغيير فهمنا كنساء ورجال لمفاهيم وأدوار نؤديها وحياة نحياها. أما هذا الطرف الثالث فهو الإنسان الآلى بالغ الذكاء والمبرمج ليكون أذكى، أى أقوى من كل الرجال وأمهر من كل النساء».
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع