بقلم : جميل مطر
قالوا يحن المغترب العربى إلى خبز أمه. لا أظن أنها قيلت عن المغترب فى ألمانيا أو فى إيطاليا فالخبز فيهما مشاهد وأنواع ومذاقات تستبعد حنين المغترب إلى خبز أمه. أصدق أنها قيلت عن مغترب فى الصين أو فى اليابان، فالخبز فيهما تقليد غربى لم يتأقلم بعد. وفى الصين تحديدا فشل المستعمر الغربى، على وحشيته وعنصريته، فى فرض الخبز. فرض الأفيون والشاى والماركسية اللينينية ولم يفلح فى فرض الخبز. قابلت مغتربين عربا فى الهند لم أسمع واحدا منهم أو واحدة تحن إلى خبز أمها فالخبز هناك كالأرز لا يفارق مائدة غذاء فى مختلف أرجاء الهند وثقافاتها وأذواق أممها وطبقات شعوبها.
بت أعتقد أن حنين المغترب العربى إلى خبز أمه قضية شعرية أكثر منها قضية غذائية. الحنين الغالب الذى لمسته فى كل مراحل اختلاطى بالعرب المغتربين وفى كل مواقع اغترابهم ومن كل طبقاتهم وأصولهم الاجتماعية هو حنين المغترب إلى حضن أمه. إنه الحنين الذى اشتق منه شعراء المهاجر قصائد الحنين إلى الوطن والحنين إلى البساطة والقرية والحنين إلى خبز أمهاتهم. عاشرت أو التقيت فى الستينيات مغتربين فى الولايات المتحدة وكندا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا من الطبقة الثرية هاجروا من مصر بعد أن صودرت أطيانهم وعقاراتهم وأسهمهم. كان حنينهم طاغيا ومتنوعا. التقيت أحدهم فى جراج للسيارات. كنت فى صحبة الأستاذ المشرف على دراستى نستعيد سيارته وقد انتصف الليل. توقفنا عند مخرج الجراج لدفع المعلوم للحارس الذى قابلنا بتودد ملحوظ ووجه مألوف وودعنا بابتسامة حزينة. خرجنا إلى الطريق والجليد يتساقط. تذكرت حارس الجراج الذى يقضى الليل خارج بيته فى هذا الصقيع فاستفسرت لأعرف أنه سليل عائلة مصرية تولى أكثر رجالاتها مناصب حكم فى العصر الملكى. التقينا بعد أيام وبترتيب مسبق فى بيت قريب له. يومها دار الحديث حول الحنين. لم أسمع من أحد منهم عن حنين إلى «الفطير المشلتت» أو الخبز المرقوق أو الحمام المحشى والأرز بالخلطة والعدس الأباظى. الحنين كل الحنين كان إلى حضن الأم. الأم التى لم تهاجر.
سألت صديقتى «كيف تحنين إليه وأنتما لم تجتمعا؟». أجابت «وكيف تحن الشعوب إلى الحرية ولم تمارسها ؟». واستطردت تأتى بحواس ومشاعر وغرائز يغلبنا الحنين إليها وبالكاد عرفناها. توسعنا فى فهمنا للحنين. قالت أتعرف أننى أحن إلى زوج يكلمنى. أعيش يومى متنقلة أحتضن هاتفا بالغ الذكاء ينقلنى من صاحب إلى آخر ومن صاحبة إلى قريبة ثم زميلة. اتكلم ويتكلمون وفى المساء نلتقى زوجى وأنا فنتكلم كلاما ككلام الهواتف. الكلمات نفس الكلمات والرموز نفسها واللهجة نفسها. أنسى أحيانا أن زوجى بالضرورة رجل مثل كل الرجال ولكن بالعاطفة لابد أن يكون مختلفا. أكتشف، ويتجدد اكتشافى كل ليلة، هذا الرجل، رجلى، يتكلم ويتصرف ككل رجال الهاتف».
قاطعتها معاتبا «ولكنك اخترت هذا الرجل من بين آلاف الرجال ليكون رجلك. هل أنت نادمة، هل تفضلين تغييره بآخر، وما هى الصفات المطلوبة فى هذا الآخر؟ لا أظنك باحثة عن رجل بدون حساب على الفيسبوك وغير صاحب تغريدة ولا يتراسل مع الناس بسطور وكلمات وإشارات لم تلقنها له معلمة أو معلم فى مدرسة. أعرف بمن تحلمين. تحلمين برجل اجتماعى، يعنى رجلا يعرف أن الاختلاط بالناس، وبك تحديدا، ممارسة صحية وضرورية. تحلمين برجل يعيش الحالة الرومانسية. يتقن لغة الحب كما نطق بها الأهل والآباء المؤسسون للسينما المصرية وليس كما ينطق بها بيل جيتس ومارك زوكربيرج وعباقرة فنون وعلوم المستقبل فى وادى السيليكون».
«ستكون المادة الأولى فى الامتحان الذى تعدينه له كتابة رسالة غرامية، وستكون المادة الثانية مكالمة طويلة عبر هاتف أرضى، مكالمة لا يملها الطرفان. يمكنك أن تنامى عبر وقع حروفه وهو يتكلم كما كنت تنامين آخر الليل سعيدة الروح ومرتاحة الجسد على معزوفات شوبان. أما المادة الثالثة فستكون حكايته عن مشوار خائلى قطعتما فيه شارع الجبلاية بزمالك القاهرة ذهابا وإيابا، وعن مشوار آخر على رصيف كورنيش الإسكندرية بدأتماه عند سور المنتزه فى السادسة صباحا ولم تشعرا إلا وأنتما تواجهان تمثال سعد زغلول وفندق سيسل فى العاشرة لينتهى بكما المشوار جالسين على مقهى ديليس أو فى مطعم محمد أحمد، وكل منهما موروث عن خواجة شهير عاش فى الإسكندرية مغتربا وخلَّف وراءه آثارا كان الظن أنها لن تمحى».
«عزيزتى، لن تجدى هذا الرجل. وإن حالفك الحظ ووجدت رجلا أقرب ما يمكن أن يكون إلى رجل أحلامك فالمؤكد أنه لن ينجح فى الامتحان. رجال هذه الأيام يصنعونهم من قماشة تختلف عن القماشة الدمشقية التى كانوا يصنعون منها رجال الزمن الفائت. مثل هذا الامتحان لا يجتازه بنجاح إلا رجل جمع نعومة وصلابة وقلبا دافئا وروحا صافية. حتى المواقع اختفت وما صمد منها لن يتحمل احتضان عاشقين اثنين ائتمناه على حبهما. الناس، أو قولى، أغلب الناس تخلت عن العشاق، وحول هذا الموضوع قيل مؤخرا وعلى لسان حاكم عربى إن بلاده خضعت فى عهد سابق لمؤامرة دولية فرضت عليها تصدير ممارسات دينية متشددة إلى جيرانها. كان نصيبنا وحدنا منها هو الأكبر والأوقع تأثيرا فى حياة المنطقة وحياة بلدنا وحياة رجالنا ونسائنا. كانت هى فيما يبدو وراء نكسة الحب فى مجتمعاتنا وآدابنا وثقافتنا».
نقلاً عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع