بقلم : جميل مطر
كن أربعا.. كلهن طالبات جامعة فى أواسط المرحلة. اجتمعن صباح ثانى أيام العيد وفاء لعهد قطعنه على أنفسهن ليتداولن فى شئون مستقبلهن بعيدا عن آذان وعيون الرقباء. يسمعن من الكبار أن الفضول تجاوز كل الحدود حتى صار لنهش شئون الناس.. علوم وفنون ومؤسسات ولجان تفتيش ومراكز دراسات وإخصائيون متفرغون. على كل حال، قالت واحدة، جئنا اليوم لا لنناقش قضية تقع فى باب المحرمات، إنما لنبحث فى قضية من أهم قضايا الفوضى الضاربة أطنابها فى المجتمع. اختتمت تصريحها الموجز بنظرة لم تخل من سخرية طافت بها على زميلاتها، لم تستثن واحدة.
***
أربع فتيات من جنسية واحدة وثقافة واحدة وخريجات مدرسة واحدة ويطللن على جامعة واحدة ومررن بتجارب كادت تتطابق. أربع فتيات تشابهن وتقاربن فى سمات وأخلاق عديدة إلى حد التوافق وتنافرن فى سمة واحدة إلى حد الاختلاف أو حتى الانفراط والانفراد. صورة التقطها لهن وبإذن منهن النادل المكلف بخدمتهن رسمت بكل الموضوعية الممكنة حال التنافر بين متطابقات. واحدة ترتدى بنطلونا من فصيل الجينز تمسك بين أشلائه خيوط من نفس القماشة. البنطلون بوضعه المهلهل لا يشى بفقر أو عوز، وهذا هو الإبداع بعينه. لا خوف من أن تثير من ترتديه شفقة أو عطفا. دليلى على ما أقول هو أن صاحبتنا غطت نصفها الأعلى بقميص يحمل توقيع أحد أشهر بيوت الأزياء.
***
ظهرت الثانية فى الصورة مرتدية مجموعة من الملابس المزركشة بألوان الزهور المفرحة. أكمام مترهلة ومهرولة إن صح الوصف وبنطلون من السعة نفسها والانشراح أيضا. الكفان كالقدمين ينكشفان للمحة ثم يختفيان. الوجه مكتمل الألوان يكلله غطاء للشعر مزخرف. الصورة تعلن أنها الفتاة المحجبة فى هذه الشلة وأنها الأكثر إثارة للمرح والتفاؤل.
***
الثالثة فى الصورة اختارت ارتداء «جونلة» توصف عادة بأنها أقصر من المعتاد. لا أحد على ما أذكر منذ كانت الجونلة عموما الرداء شبه الرسمى لطالبات الجامعة وضع تعريفا دقيقا للمعتاد من الجونلات وما فوق هذا المعتاد وما تحته. تركوا المعضلة للمجتمع يقيس بها قوة المرأة أو يحدد بها أدوارها فى مرحلة أو أخرى من مراحل التطور والانحدار. كانت أيضا، إن لم تخنى الذاكرة، ترمومتر الذوق فى مجتمع النخبة الحاكمة تقليديا أو الحاكمة بالوكالة أو الحاكمة بالانتخاب أو الحاكمة بالاغتصاب. ثالثتنا هذه تعمدت فيما يبدو تأكيد موقف بارتدائها « بلوزة» عرت أكثر مما سترت وأبرزت أكثر مما أخفت. تحدت بما ارتدت الناظرين وتطاولت بعنادها على المعتدلين والمهادنين.
***
بكل وقار جلست الرابعة وعلى يمينها وقفت صاحبة البنطلون الممزق إربا وعلى يسارها صديقتها ذات الملابس الصارخة تحديا وخلفها المحجبة بألوانها الزاهية. جلست متأنقة ببذلة رمادية وقميص أبيض اللون يزينه عند الرقبة شريطان من حرير أسود يتدليان بنعومة واحترام حتى أسفل الصدر بقليل. هذه الرابعة ظهرت أكبر من عمرها سنوات بفضل ما ارتدت من ملابس، ولكن أساسا بفضل اعتناء شديد وواضح بالتوزيع المناسب والمتناسق لألوان صبغة الشعر وتسريحته مع ألوان تزويق الوجه وبخاصة الطبيعة الهادئة للون اختارته أحمر للشفاه.
***
لدينا فى هذه الغرفة نموذج مصغر لأحد أوضاع الذوق المصرى. لو أننا أضفنا إلى مكونات هذا النموذج جلباب الفلاحة الزاحف على الأرض يمسح تراب الحقل والزريبة والبيت وفستان سهرة سيدات الطبقة الثرية الزاحف هو الآخر على الأرض يداعب صوف السجاد الأحمر الموصل بين سيارة الركوب ومدخل القصر وسجاجيد الصالات والصالونات، وأضفنا أيضا عباءة المصريات المنتقبات وما فوقها وتحتها، لأدركنا كم أن الوضع الراهن لذوق اللباس المصرى بائس ومثير للإحباط ومعمق للفرقة بين أفراد المجتمع الواحد. هذه ليست تعددية إيجابية.
***
المشكلة تتفاقم. تتفاقم فى بلدنا وفى العالم. تصورت دائما أن الزى يجب أن يكون إحدى أهم أدوات تثبيت اللحمة داخل الشعب الواحد ويجب ألا يكون عنصرا من عناصر توسيع الفجوات وتعميقها. أعرف أنه فى ممالك الجزيرة العربية وإماراتها كما فى دول الغرب تتقارب أشكال الزى وإن تباعدت نوعيات الأقمشة وتباينت جودتها وتمايزت خياطتها وحشوتها. كانت الصين تندرج مع هذا الصنف من الدول إلى أن استسلمت للعولمة وراحت الطبقات تتباعد عادات وسلوكيات وأذواقا. الزى عندنا يتقاطع مع التصنيف الاجتماعى مضيفا بهذا التقاطع عنصرا مزعجا إلى عناصر الاختلاف والاحتكاك الكثيرة فى المجتمع المصرى. يقلقنى بشكل خاص ما أسمعه عن سياسات متعمدة تعتمدها شركات عظمى فى مجالات الذكاء الاصطناعى، سياسات تهدف إلى تغيير الذوق فى التو واللحظة. لا أبالغ. مثلا تخطر فكرة لمبرمج يخطط لتوزيع ملابس يقترح بمقتضاها خلع البنطلون الجينز المهلهل واستبداله على الفور بجونلة فوق الركبة من الورق المقوى. تؤكد تحولات الذوق فى العقدين الأخيرين على أن الشركة العظمى المعنية بالأمر قادرة بوسائل أصبحت معروفة على غرس هذا المنتج بسرعة رهيبة كذوق جديد يسود ويهيمن لفترة تقررها الشركة.
***
كم من أفكار وعادات وممارسات كانت مهيمنة ومتحكمة قبل أن تسقط فى السنوات الأخيرة. عوالم وعقائد سقطت وجيلى شاهد عل سقوطها، وبعض السقوط كان مدويا. نعيش مثلا مرحلة سقوط هيمنة ربطة العنق كجزء لم يكن يتجزأ عن الزى الرجالى الأوروبى، كما عشنا قبلها سقوط هيمنة القبعة فى الغرب والطربوش فى الشرق الأوسط والجاكتة ذات الصفين من الزراير. نحن شهود هذه الأيام على تنفيذ سياسات تسريب أزياء رجالى جديدة مركبة من «الهلاهيل»، هدفها التعجيل بإسقاط الذوق المهيمن. ليس شرطا مسبقا الحصول على رضاء المستهلكين جميعا أو حتى أغلبية فيهم عن منتج يخلق ذوقا جديدا. سئل أحد الخبراء فقال لو استطاع كل الناس تحرير مجلة فوج الفرنسية الشهيرة لما وجدت فوج أصلا. أنا شخصيا سئلت فأجبت بأنه لو وجد عشرة أفراد يكتبون مثل نجيب محفوظ ما كنا عرفنا نجيب محفوظ ولما خصصنا جوائز تحمل اسمه.
***
آلمتنى وحزت فى نفسى معلومة تقول إن سقوط هيمنة ذوق وصعود أخرى إنما هو الآن ومن الآن فصاعدا من صنع المعادلات الرقمية، أى من ثمار الذكاء الاصطناعى، وليس من عمل بشر. أذواقنا سوف تبتكرها آلات وأرقام وتسقطها آلات وأرقام.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع