بقلم : جميل مطر
عشت بعض سنين حياتى بين العرب. قابلت سياسيين من كل لون وطعم ورائحة. قابلت سياسيين فى الحكم وسياسيين فى المعارضة. سمعت من كبارهم وصغارهم على حد سواء نظريات فى التقدم والمستقبل تفوق فى العدد وسعة الخيال كل ما سمعت من أقرانهم فى دول أخرى زرتها. رأيتهم وهم يحتفلون بانتصارات بعضها من صنع خيال إعلاميين وخيالهم، ورأيتهم فى لحظات انكسار. كنت شاهدا على شعوب مؤمنة بما اختاره حكامها، وشاهدا أيضا على شعوب، وأحيانا هى نفسها غير راضية عن حكامها، وأحيانا عن نفس الحكام الذين سبق وحصلوا على الرضا.
جاء وقت عرفت فيه كثيرا من السياسيين فى الحكم أو خارجه يخفون عن عمد هوياتهم الأولية أو عن حق لا يهتمون بها. قليلون، باستثناء ساسة لبنان، كانوا واثقين من أن التمسك بالهويات الأولى فى خطابهم السياسى أو فى تصرفاتهم الشخصية عقبة فى وجه صعودهم. للحق يجب أن نعترف أن معظم سكان هذا الإقليم اختاروا فى لحظة معينة صفة العروبة تأكيدا لنيتهم الاستقلال عن النفوذ التركى المنكسر على كل حال وصدًا للنفوذ الغربى الزاحف بإصرار والمحتل أراضيهم. اجتمع هؤلاء السكان على أن تكون صفتهم عربية، وقرر الحكام فى لحظة تاريخية أن يقيموا منظمة إقليمية تحمل هذه الصفة تأكيدا لالتزامهم هذه الهوية. خافوا على استقلالهم الوليد وسلطتهم فوضعوا فى مواثيقها وتقاليد عملها عديد القيود التى تضمن بقاءها عند الحد الأدنى، لا تتجاوزه. لم تخيب الجامعة العربية آمال الأباء المؤسسين، وبخاصة أملهم فى أن تكون لدولهم صفة أوسع أو أكبر من الصفات التى فرضتها عليها ظروف جغرافية واجتماعية محلية.
اليوم، ورغم جهود محمودة من جانب قيادات فكرية بثت خلال مسيرتها فى عروق الأمة صدقية دولية وجهود أيضا محمودة من جانب قيادات إدارية وتنظيمية حافظت على وجود المنظمة وحاولت بكل الصبر والاقتناع خلق مصلحة لدى الدول الأعضاء فى استمرار هذا الوجود، أستطيع القول إن الجامعة تمر الآن رغم كل الجهود الصادقة فى مرحلة صعبة أعتقد أنها لن تخرج منها سليمة. تأكدنا ونحن نراقب انحدارها على مر السنوات الأخيرة أنها لم تكن مزودة بالحصانة اللازمة للتعامل مع أوضاع خلفتها أحداث الربيع العربى. «المشهد العربى» كله يؤكد أن الدول العربية، أو أغلبها، واجهت أو ما زالت تواجه صعوبات جمة فى التعامل مع التغييرات التى تسببت فيها هذه الثورة والأعمال والسياسات والحروب المناهضة لها، ويؤكد بالتالى خطورة الشروخ التى أصابت مختلف المنظمات الإقليمية بل والعمل العربى المشترك بشكل عام. وقد تظل نقطا سوداء محفورة فى تاريخها الأدوار التى أجبرت على القيام بها ضمن ردود الفعل غير المحسوبة جيدا من جانب عدد من الدول العربية.
ومع ذلك استمرت الجامعة العرببة موجودة وإنْ محددة الوظائف ومقيدة التصرفات، ولكنه الاستمرار الذى يحمل فى طياته مختلف الاحتمالات، هى احتمالات معتمدة على احتمالات مماثلة بدأ بعضها يواجه النظام الإقليمى نفسه. سمعت مسئولين من العرب يحتجون على كثرة تردد سؤال بعينه من باحثين وإعلاميين. هؤلاء يسألون عن موقف الدول العربية من الجامعة العربية فى حال وجدت هذه الدول مصلحة لها فى أن تكون لاعبا فى نظام إقليمى آخر، شرق أوسطى مثلا. أو فى حال قررت إقامة مشروعات تكامل اقتصادى دولية أو إقليمية تأتى على حساب مشروعات تكامل عربى وإن متوقفة. أو فى حال الدخول فى حلف عسكرى أو نزاع مسلح طويل الأمد مع دول من خارج المنظومة العربية وينتج عنه تهديد مباشر لأمن واستقرار دول أخرى فى داخل هذه المنظومة، دول لم تستشر ودول لم يحسب حسابها.
***
إقامة نظام إقليمى جديد أو تحديث نظام قائم مهمة ليست هينة ولدينا فى تجربتى الاتحاد الإفريقى والاتحاد الأوروبى ما يكفى لإقناع المترددين. مبدئيا يحتاج الأمر إلى تحقيق شروط من بينها ما هو غير متوافر فى الوقت الراهن ولن يتوافر بالبساطة التى توافر بها عند إنشاء جامعة الدول العربية. من هذه الشروط:
أولا: وقف الاشتباك الناشب بين الهويات لصالح هوية النظام الجديد قبل الانضمام إليه. لن ننسى أن العرب أجمعين دفعوا ثمنا باهظا حين أدى الاشتباك العنيف بين هويتين فى العالم العربى خلال الحرب الباردة العربية بين من سموا وقتها بالتقدميين والمحافظين إلى شل الجامعة العربية وتعطيل مسيرة التكامل والأمن القومى. ثانيا: استعادة كينونة الدولة وثقتها بنفسها ومستقبلها وكلها أضيرت فى مرحلة العولمة ضررا جسيما. كادت الدولة منذ ذلك الحين تفقد سيادتها على أراضيها وشعبها ومصالحها ففقدت أو كادت تفقد بالتالى ثقتها فى الآخر وفى أى مبادرة تقترح التنازل عن جزء من السيادة فى سبيل أمن أو رخاء أوفر. ثالثا: وقف تخبط أو تضارب السياسات الاقتصادية للدول المرشحة لعضوية النظام. لقد كان من أسباب ضعف النظام الإقليمى العربى وانحداره المتسارع فى السنوات الأخيرة تنفيذ دولة أو أكثر مشاريع إصلاح اقتصادى اعتمدت التقشف وتوصيات المؤسسات الدولية، وبالتالى أثرت سلبا على برامج التعاون الإقليمى ومشاريع البنية التحتية فى العالم العربى. رابعا: الانتباه إلى ضرورة تسوية النزاعات بين دول الإقليم، وبخاصة تلك النزاعات التى تثير قضايا هوية أو مشكلات تتعلق بظروف النشأة. لم ينهض النظام العربى بمسئولياته ولم يحقق الأحلام التى ألقيت على عاتقه بسبب اعتقاد بعض الحكام فى أحقيتهم فى التدخل فى شئون دول أخرى، وبدعوى أنهم أقدر وأكفأ أو بدعوى التزام رفعة الدين أو قدسية الرسالة القومية. خامسا: تفادى عسكرة النظام الإقليمى الجديد أو القديم فى حال اتخذ قرار تجديده. أقصد بالعسكرة انشغال حكومات هذا النظام الإقليمى بدرجة فوق المألوفة بالأمور العسكرية مثل سباقات التسلح وبناء جيوش المرتزقة والتدخل عسكريا خارج الحدود والسماح لدول أجنبية بشن حروب بالوكالة أو حروب مباشرة كالحرب على العراق باعتبارها النموذج الأمثل على حرب كادت تودى بنظام إقليمى إلى الفناء. المقصود بالعسكرة أيضا الأعمال الحربية وسباقات إقامة القواعد الجارية فى القارة الإفريقية، وجميعها شرط كاف لإفشال النظام الإفريقى وإحباط منظمته الإقليمية.
قصد بالعسكرة أيضا المبالغة فى توظيف واستخدام قوى الأمن الداخلى إلى الحد الذى يتوقف عنده تلقائيا أو غضبا أو قسرا العمل المدنى. أظن أنه بات مفهوما أنه لا فلاح لمشروع تكاملى أو تحديثى لم يبذل فيه العمل المدنى الجهد المناسب والإبداع العلمى الضرورى. بات مفهوما أيضا أنه لا انتصار نهائيا وحاسما فى مشروع لم يشترك فى التحضير له العمل المدنى وبخاصة السياسى. سادسا: قام النظام الإقليمى العربى فى حماية أو بسبب وجود توازن قوى إقليمى. وأظن أنه لن يقوم بعده أو فى محله نظام إقليمى جديد أو نظام عربى مجدد إلا عندما يقوم ويتأكد توازن قوة بين قوى النظام. أزعم أن هذا التوازن الذى يمكن أن يكون بمثابة الأساس غير موجود حتى الآن، لم يقم وإن تعددت المحاولات وأغلبها باء بالفشل.
***
أسئلتنا إلى المسئولين عن مستقبل النظام الإقليمى العربى وجامعته العربية كثيرة وصعبة. بأى حال لا يجوز أن تكون كثرتها أو صعوبتها عذرا يمنع المصارحة حول آمال الطبقة السياسية العربية فى مستقبل النظام العربى، بمعنى آخر عذرا يمنع الحديث المكشوف عن مستقبل العرب، مستقبلى ومستقبلك.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع