بقلم : جميل مطر
صديقى المطلع على كثير من خفايا العلاقات الدولية فى الشرق الأوسط ما فتئ يعرب عن صعوبة فى فهم الحال الراهنة للعلاقات بين مصر وروسيا. يتساءل عن السبب أو الأسباب وراء عدم ارتقاء هذه العلاقات إلى مستوى تستحقه. يغفل هذا الصديق، وكثيرون من الخبراء فى المنطقة، حقيقة أن ما يعتقدونه مستوى تستحقه العلاقات بين الدولتين قد لا يكون بالضرورة المستوى الذى تسعى إليه الدولتان فى اللحظة الراهنة. بعضنا ما زال لا يقدر بالدرجة الكافية حجم وضراوة الأهوال التى تعرضت لها الدولتان خلال فترة امتزجت فيها استراتيجيتهما وتداخل بعض أهم مصالحهما ومارستا معا أدوار الريادة فى المنطقة.
***
كثيرون، وأنا أحدهم، ما يزالون يفكرون متأثرين بسياقات ربما اختفت. أضرب مثلا أن هناك صروحا لعبت أدوارا مهمة فى صنع وتطوير كثير من علاقات العرب الدولية، بل كانت فى كثير من العهود تفرض نفسها سياقا تلتزمه الدول العربية وتحسب له حسابا دول كبرى ودول إقليمية. كانت جامعة الدول العربية أحد هذه الصروح وكانت فى بعض الأحيان سياقا تلتزمه الدول أو تراعيه. اليوم، بل ومنذ زمن غير قصير، نرى الصرح ولا نرى أو نلمس سياقا يدعونا لالتزام من أى نوع. الصرح قائم والمضمون، أيا كان، غائب. لا نلوم على هذا الغياب أمينا عاما بعينه أو توازنا إقليميا استجد فالأمر أخطر وأعمق. أنا وغيرى غير قليلين يجب أن نتخلص من تأثير القصة الذهبية، قصة أول أمين عام للجامعة حاول أن يفرض الجامعة سياقا والتزاما وقيادة لحكومات الدول الأعضاء قبل أن تتكاتف وتزيحه. أرادت هذه الحكومات تثبيت استقلالية قرارها السيد والمكتسب منذ قليل. لا أبالغ وأنا أقول إن الحساسية الشديدة التى تتعامل بها الحكومات العربية الآن مع كل ما يمكن أن يصدر عن الجامعة ماسا باستقلالية قرارها «السيد» عادت إلى حالتها البدائية التى كانت عليها وقت النشأة فى الأربعينيات من القرن الماضى. وقتها خرج إلى الحياة ميثاق الجامعة العربية الذى وضع ليحمى الصرح ويجمد المضمون ويردع الطموح.
***
يخطر ببال بعض المحللين وبخاصة المتمسكين منهم بالصروح أن هيكل العلاقات المصرية الروسية الذى عرفناه وعشنا فى سياقه ردحا من الزمن ما يزال فاعلا أو مؤثرا فى عمليات صنع السياسة الخارجية فى كل من موسكو والقاهرة. أظن أنه ما يزال فاعلا بدليل حرص الطرفين على عدم تكراره وليس بمعنى الرغبة فى تطوير علاقة استراتيجية متكاملة الأركان. مصر اليوم ليست مصر الخمسينيات والستينيات، وكذلك روسيا. أما المنطقة فحدث عن التغيير الذى لمس جميع نواحيها ولا تتوقف. مصر كانت تمارس السياسة الخارجية من موقع دولة قائدة تحالفات وصانعة توازنات فصارت تظهر كدولة تقنع بنظرة احترام تليق بماضى نفوذها فى الإقليم. تظهر أيضا بمظهر الدولة القادرة ولكن الملتزمة سياسة النأى بالنفس بقدر ما تسمح به الظروف وبدون أن تتهم بالانعزالية. مصر تؤكد بأفعالها أنها صارت غير معنية بشدة أو بحماسة بقضايا ومشكلات خارجية لا تمس مباشرة أمن مناطق الحدود المصرية. بمعنى آخر لا قضايا «قومية» تتصدر بالضرورة جدول أعمال الدبلوماسية المصرية. الواقعية تهيمن مع الميل أحيانا إلى ممارسة واقعية مفرطة.
روسيا أيضا تغيرت صروحا ومضمونا. روسيا تعود إلى الشرق الأوسط لا تحمل أى رسالة. ليست روسيا التى عهدناها حاملة أكثر من رسالة منها الاشتراكية. اختارت أن تدخل إلى الإقليم أول مرة من باب صغير فى سوريا. ثم ألقت بكل ثقلها على مصر ليست كبوابة تدخل منها ولكن كمركز تستقر فيه وتدير منه معارك حربها الباردة مع القطب الأمريكى. كانت تحالفات مصر الإقليمية، عربية وإفريقية وآسيوية، رصيدا سياسيا مهما تنهل منه مصر وحلفاؤها ومنهم روسيا.
روسيا عادت إلى الشرق الأوسط وفى نيتها أن تحل محل أمريكا المنحدرة نفوذا وقوة. فى نيتها أيضا أن تسبق وصول الصين إلى الشرق الأوسط حتى يترتب لها مصالح ونفوذ وحقوق تساوم بها العملاق الزاحف من طريقين، طريق الحرير وطريق الحزام. استعدت روسيا لتكلفة بشرية ومادية كبيرة تحملتها منذ دخولها إلى سوريا كطرف مؤثر وفاعل وليس كحليف مؤقت وصديق مؤازر كما كان الحال مع مصر. ساعدتها مصر دون أن تعرف. مصر كانت منذ بداية الحرب فى سوريا الدولة العربية التى اختارت بالوضوح اللازم والممكن تمسكها بوحدة الجيش السورى باعتباره الضامن الوحيد لاستمرار سوريا دولة موحدة. بكلمات أخرى كانت روسيا هذه المرة فى مأمن من حملة سياسية وأيديولوجية تشنها مصر ضد الوجود الروسى فى الإقليم كما فعلت من قبل فى العهدين الناصرى والساداتى فى حالتى سوريا والصومال على التوالى. مصر هذه المرة لا تقود أيديولوجيا ولا تتحمل بمفردها مسئولية قومية أو إقليمية. مصر لا تملك نظريا أو موضوعيا حق الاعتراض فى الإقليم ولا القدرة على تنفيذه لو أتيح لها امتلاك هذا الحق.
***
تبقى مصر، بالنسبة لروسيا، سوقا لمصالح روسية مهمة فى الحال والمستقبل القريب. مصر مستورد ومستهلك ممتاز للسلاح الروسى وبخاصة الأنواع المحرمة على مصر فى الدول الغربية. مصر زبون نموذجى للمعامل النووية التى تنتجها روسيا وتنافس بها الولايات المتحدة والصين. لا أحد يستبعد إقبالا غير محدود من جانب عدد متزايد من دول الشرق الأوسط، عربية وغير عربية، على التزود بمفاعلات نووية لكافة الأغراض. من ناحية أخرى تبقى مصر مصدرا خصبا للمعلومات عن الأنشطة الإرهابية وبخاصة مواقع تمويلها، وستبقى موقعا استراتيجيا مهما ومركزا لتحالفات بين الدول المنتجة للغاز فى شرق المتوسط.
لن تخرج روسيا من سوريا فى القريب العاجل ولن تتوقف الأسئلة حول مستقبل الشرق الأوسط فى ظل الرعاية الروسية. هل يستمر طويلا وجود القوات الإيرانية فى حماية الوجود الروسى وأى شكل ستتخذه هذه القوات؟ لا يوجد أدنى شك فى أن الروس يستحسنون استمرار وجود الإيرانيين فى كل من العراق وسوريا بشرط الالتزام بالخط الأمنى الروسى. الخط لا بد أن يراعى ضمان سلامة إسرائيل، فى وقت يتعاظم الشك الإسرائيلى فى جدوى الاعتماد المطلق على «الغرب» يزداد ضعفا وانفراطا، وتتكاثر فيه حملات النقد للسياسات الإسرائيلية.
عندما نتحدث عن سوريا «تحت الاحتلال» أو تحت الوجود الروسى طويل الأجل فنحن نتحدث فى الحقيقة عن أمة عربية غائبة، وفى أحسن الأحوال عن مشروع عربى مؤجل، وفى كل الأحوال نحن نتحدث عن جزء معطل فى العقيدة الاستراتيجية المصرية.
الاقتباس
مصر تؤكد بأفعالها أنها صارت غير معنية بشدة أو بحماسة بقضايا ومشكلات خارجية لا تمس مباشرة أمن مناطق الحدود المصرية. بمعنى آخر لا قضايا «قومية» تتصدر بالضرورة جدول أعمال الدبلوماسية المصرية. الواقعية تهيمن مع الميل أحيانا إلى ممارسة واقعية مفرطة.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع