بقلم - جميل مطر
ليس من عاداتى الحصول على جوائز، بل ولا أذكر أننى كنت يوما بين الأوائل فى مسابقة رياضية أو امتحان فى فصل أو مدرسة أو فى شهادة عامة. الاستثناء الوحيد تحقق فى عام تخرجى من الجامعة ولسبب لم يعد سرا، إذ قضيت العامين الأخيرين فى عمر التلمذة أعمل فى مكتبة أجنبية؛ حيث تعلمت حتى أدمنت القراءة من خارج المنهج. لذلك وبعد مرور نحو خمسة وستين عاما، وللوهلة الأولى، لم أطمئن إلى صوت خشن كان يحاول عن طريق الهاتف نقل رسالة بدت لى صعبة التصديق. تجاسرت فجعلت صاحب الصوت الخشن ينقل الرسالة مرتين، ففى الرسالة كما نمت إلى فهمى فى القراءة الأولى إشارة إلى شخص آخر، ليس رجلا على كل حال، يريد التحدث معى فى مسألة شخصية. فيها أيضا تلميح بأن المسألة تتعلق بترشيحى لجائزة تحمل اسمين: مصطفى أمين وعلى أمين.
• • •
اتصلت السيدة لتبلغنى أن لجنة من المحكمين اختارتنى لجائزة كاتب أفضل مقال. بدت سعيدة وهى تنقل عن مجلس أمناء مؤسسة الجائزة انشراح الأعضاء بهذا الاختيار. حاولت من ناحيتى أن أكشف عن شىء من السعادة وأتخلى ولو قليلا عن الشك والريبة. زاد الفضول عندما نطقت السيدة باسمها بالسرعة البطيئة، أظنها نطقت به عامدة بعد أن لمست فى صوتى غرابة لم أفتعلها. «أنا صفية رئيسة المؤسسة، أنا صفية مصطفى أمين». هنا راح لسانى يتمتم فى سكون.. صفية ابنة مصطفى أمين تبلغنى بنفسها قرار مؤسسة مصطفى أمين وعلى أمين منحى أهم جوائزها المستحقة عن العام الفارط.
• • •
أن أحصل على جائزة فأمر لا شك غريب، أو لعله بدقة أشد غير متوقع من جانبى كما سبق وذكرت. أما أن تكون الجائزة تحمل اسمى مصطفى وعلى أمين فهو الأمر المستحيل تصوره وليس فقط توقعه إن وقع قبل سنوات. جئت إلى هذه المهنة، مهنة الصحافة، من باب بعيد ليس كأبوابها المعتادة أو المأهولة. جئت من الدبلوماسية مرورا بالأكاديمية لأنضم على الفور إلى بلاط صاحبة الجلالة عند القمة. وقتها، أقصد وقت الانضمام، كانت المهنة تغلى بالأقاويل والتوقعات. جمعت بعضها وذهبت بها إلى مقعد خالٍ بطائرة الشركة الفرنسية، يجاور المقعد الذى احتله محمد حسنين هيكل قائد الرحلة الشهيرة التى قام بها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية إلى شرق آسيا وجنوبها.
«هات ما عندك، فلهيب الفضول سبقك إلى المقعد الخالى». قالها وأغلق بحنان واعتبار كتابا كان يقرأ فيه، واستدار نصف دائرة استعدادا لمصارحة لم أخيب أمله فى أهميتها. سألت إن كان هناك ما فاتنى معرفته فى قصة الخلاف الناشب على قمة الصحافة المصرية بين هيكل وآل أمين. أجاب بحذر ما معناه، «لم يفتك الكثير، فالعلاقة فى جوهرها، وكثير من تفاصيلها، تشهد عليها مهنة الجورنالجية فى كل عصر وكل بلد. عندنا وأقصد فى بلدنا، أُضيفَ إليها كثير من الرتوش، وتدخَلَت فى إثارتها ومسيرتها مصالح قوى داخلية وخارجية ومراكز تأثير تعمل فى السر وفى العلن. أعدك بتفاصيل لم يحن أوان الإفصاح عنها، يحين أوانها مع أوان قضايا أخرى على قائمة الانتظار. كل ما استطيع مساعدتك به، إطفاء لبعض فضولك المشروع، مع رجاء أن تحتفظ به لنفسك هو أن علاقتى بعلى أمين قوية كالعهد بها دائما وعلاقتى بمصطفى أمين جاهزة لإعادة تأهيل. الأساس فيها لم يتغير، وهو أننا كجماعة فريدة من البشر، جماعة الجورنالجية، نعيش ونتغذى على المنافسة والسبق الصحفى وكثافة وعمق الاتصالات. ثق فى أن أحدا منا لم ينس فضل الآخرين عليه. هناك طبعا الدخلاء والمفسدين وهؤلاء لا خلاف حول أدوارهم فى إشعال الفتنة فى أوساط المهنة. قريبا جدا سوف تكتمل عندك الصورة. أعدك بهذا».
مرت شهور حافلة بالأحداث. اكتملت فى نهايتها الصورة أو كادت. طلبت وزميلى فى مركز الدراسات سميح صادق مقابلة مع أحمد بهاء الدين. رحنا نشكو ما قيل لشباب المركز على لسان أحد كبار المسئولين وخلاصته أن الأهرام لن يكون مستعدا للاستمرار فى استضافة مركز الدراسات إذا استمر بدوره يمارس تخصصاته السياسية والاستراتيجية. طلب منا بهاء الدين أن نعود لمقابلة أخرى فى اليوم التالى. قال لنا فى المقابلة الثانية «أنتم أحرار. إن اتيحت لكما فرص عمل فى الجامعة العربية أو غيرها فلا تترددا. كل ما استطيع قوله لكما هو أن «موضوع مستقبل المركز أكبر منى ومن على أمين رئيس تحرير الأهرام».
مرت سنوات قبل أن تظهر لنا التفاصيل فى كتاب أحمد بهاء الدين «محاوراتى مع السادات»، وبينها أن الرئيس السادات شخصيا كان وراء تعليمات تغيير هوية المركز واهتماماته، ووراء سياسات إضعاف الأهرام كمؤسسة إعلامية. بينها أيضا أن كل الكبار الذين تولوا مسئولية الأهرام بعد هيكل رفضوا أن ينفذوا حرفيا أو بحماسة تعليمات الرئيس، ومن هؤلاء حاتم والسباعى وعلى أمين.
• • •
كان حفل توزيع الجوائز كريما ودافئا. التقيت العشرات من الضيوف والمحكمين والمسئولين عن إدارة الجائزة ومن هؤلاء وغيرهم تلقيت التهانى الواجبة وأيضا المناسبة. هنأنى بحفاوة رسمية الأستاذ محمد بركات أحد القادة فى مؤسسة أخبار اليوم وزميلى لسنوات فى هيئة جائزة دبى للإعلام العربى، وهنأنى بخطاب عاطفى وجاد فى آن الصديق الدكتور مصطفى الفقى. كنا فى المدرسة نسبغ على خطيب الحفل صفة المفوه قبل أن نعرف معناها. قابلت فى حياتى رجلين استحقا فى رأيى هذه الصفة بجدارة بعد أن صرت أعى معناها فى الأسلوب كما فى الجوهر. الرجلان هما اللبنانى كلوفيس مقصود والمصرى مصطفى الفقى. كلاهما يستطيع إلقاء خطاب لمدة ساعة أو أطول فى موضوع يجرى تكليفه به قبل دقائق معدودة من لحظة صعوده إلى المنصة ويحصل على دقائق عديدة من التصفيق والتهليل وقوفا عقب الانتهاء من إلقائه.
• • •
انتهى الحفل أو كاد بانتقال جهاز الجائزة وكبار المسئولين إلى حيث كانت مائدتنا. وفى أعقابهم وفى موكب التهانى مشى المهنئون والمهنئات. رحت أتلقى بالرضا أحضان التهنئة بينما عقلى يبحث عن الأسماء، أسأل مرة الدكتورة نيفين وأخرى الزميلة داليا شمس وثالثا الصديقة أميمة كمال. قضيت أسبوعين فى فراشى أكرر الأسماء بعد أن أضيف إليها عشرات خوفا من فقدان اسم منها هنأنى فنسيت.
كادت الغرفة تضيق بأفراد العائلة، نساء ورجالا، حين استأذن طبيب الحى فى مساحة تسمح له بالكشف على صدرى، وفسحة وقت تسمح له بتوجيه أسئلة وتلقى أجوبة. سألنى فأجبت بأننى حضرت حفلا وأن المهنئين كانوا كثر. سأل، يعنى كانت هناك أحضان وقبلات؟ أجبت بنعم. واستطرد خاتما استجوابه بمحاولة أخيرة لتبرئة نوايا أسئلته، يعنى مفيش كمامات؟
اليوم أكتب من خارج الفراش منتهزا فرصة تناول آخر الأقراص المهدئة للحرارة لأشكر أسرة مؤسسة جائزة مصطفى وعلى أمين على الجائزة والحفل الكريم، وكل المهنئين والمهنئات. أشكر أيضا عشرات الصديقات والأصدقاء الذين كتبوا رسائل مطولة أو قصيرة حملت تهانى بالجائزة. أخص بالذكر واحدة منها كتبها ثم نشرها الصحفى اللبنانى الكبير الأستاذ سمير عطاالله فى صحيفة الشرق الأوسط. أخصها بالذكر لأن الأستاذ سمير، مثل عدد غير قليل من الأصدقاء، يفضل دائما أن يشبه علاقتى بهيكل بعلاقة التلميذ بالأستاذ، وفى مقاله الأخير كرر هذا التشبيه. يذكر ولا شك أننى كنت على الدوام أرفض هذا التشبيه. يعرف كل من عملوا معى أننى قضيت معظم سنوات حياتى أقارن بين خبرات من أعمل معهم واختار منها ما يناسبنى. سعدت، وما زلت أسعد، بما حصلت عليه من خبرات متميزة فى العلاقتين، علاقتى العمل والصداقة مع هيكل، وخبرات متميزة أخرى من علاقة طويلة من العمل والصداقة مع أحمد بهاء الدين وعلاقة قراءة فى الأسلوب والممارسات الصحفية التى ساهمت أكثر من غيرها فى نقل الصحافة المصرية إلى مرتبة الحداثة، أقصد خبرات وأساليب التابعى وجلال الحمامصى ومصطفى أمين وغيرهم.
من ناحية أخرى لا يفوتنى أن أشير فى هذه السطور الأخيرة إلى رد هيكل على مداخلة من صحفى لبنانى فى جلسة عمل انعقدت فى بيروت حضرها أصدقاء من وزن أسعد المقدم وطلال سلمان وغسان توينى وكان حاضرا على ما أذكر الصديق سمير عطاالله. تعمد الصحافى يومها الإشادة بإمكاناتى كتلميذ نجيب لهيكل. أذكر أن هيكل علق سريعا بعبارته المعهودة «هذا بالتأكيد شرف لا أدعيه».