بقلم:جميل مطر
سمعتهما تتحادثان. أرادتا أن أسمع وأتدخل إن شئت. وافقت واستمعت ولم أتدخل إلا قليلا. فهمت منذ الدقيقة الأولى أن الموضوع محل الحديث حساس. نظرة إلى وجه إحداهما وهى الأصغر تكفى للدلالة على أننى أمام نفس متمردة. لن تهدأ قبل أن تجد الدعم الذى تحتاجه لتغير تفاصيل فاصل من حياتها. تريد أن تجد عند صديقتها الأكبر سنًا هذا الدعم، والآن وبوجودى أتيحت لها فرصة لتشكيل ائتلاف من اثنين مؤثرين فى دوائرهما بالسمعة والتجربة. لم أشك للحظة واحدة بعد الدقيقة الأولى فى أن الصغيرة اتخذت قرارها فى قضيتها قبل أن تأتى إلينا رغم علمها أن القرار فى مجتمعنا يظل ناقص الشرعية والاحترام اللازم إلى أن يحصل على دعم ضرورى ومتفهم.
***
افتَتَحَت المقابلة بقولها لصديقتها «أشكر لك سرعة استجابتك لندائى. أؤكد لكِ أن هناك عشرات، بل ربما مئات، ينادين مثلى. يساعد الحظ بعضهن فيجدن من يستجيب للنداء فى الوقت المناسب. أكثرهن لا يجدن الاستجابة أو تصل بعد فوات الأوان أو تأتى دون المستوى المرغوب. لا أبالغ ولا أسعى إلى تضخيم القضية، ولكنى أعلم كما تعلمين بخبرتك، أن كثيرات ممن لم يلقين استجابة لنداءات بعثن بها أصابتهن أضرار متباينة. تشعرن بعدها بأن الدنيا على اتساعها ضاقت بهن وتركتهن بلا خيارات. أحد لم يستجب لصرخات بعض من صرخن وتأوهات بعض من انكسرن وتوسلات بعض من كدن يفقدن الأمل. هؤلاء فى لحظة أو أخرى يتمنين الموت على قاعدة نسجتها عبر آلاف السنين نساء مع نساء جوهرها أن المرأة إذا احتاجت فنادت ولم تجد استجابة حق عليها الموت خيارا أفضل».
***
توقفت لتلتقط أنفاسها المنهمرة بالانفعال وانتهزت الفرصة لتلتفت ناحيتى وتسأل «أراهن أنكم، أقصد كثيرين منكم أيها الرجال، لم يدركوا بعد هذه الحقيقة، ومن أدركها ربما لا يعرف كم صارت موجعة ومهينة لنا معشر النساء ويجب أن تكون كهذا لكم معشر الرجال». اعتدلت فى جلستى استعدادا لأتدخل ليس دفاعا عن جنس الرجال ولكن عن فريق منه بدأ بالفعل يدرك ويتحرك متآلفا مع فريق من نشطاء النساء أو مستقلا. فاجأتنى بأن تمالكت بسرعة السيطرة على أنفاسها وعادت إلى حيث توقَفَت فى الكلام لتواصل حديثها عن آلام النساء. نظرت إلى صديقتها الأكبر سنا وكأنها تستأذنها فى أن تتحدث فى حضورى فيما هو شأن يخص الصديقة أيضا. جاء الرد فى ابتسامة تعلوها إيماءة ودودة وكأنها تقول «خذى راحتك فى الكلام.. يعرفنى كما يعرف كف يده».
***
«لا أتحدث عن نفسى فقط ولكن عن ملايين، بل بلايين، النساء اللائى يطلبن من الرجال تلبية حاجة من حاجات الحب أو رغباته ويرفض الرجال الطلب أو يترددن فى تلبيته. أعرف عن سنوات، وإن قليلة، قضيتها فى حب رجل أنه لا يوجد ما هو أشد إيلاما وقسوة من ألم يتسبب فيه هذا الرفض. لا أظن أنى قابلت رجلا رفضت امرأة تلبية طلبه تألم كما تتألم امرأة رفض الرجل تلبية طلبها. قال لى معالج لجأت إليه أن الرجل بحكم تقاليد وأديان وتاريخ وخرافات ورثناها أو تشربناها يعتبر رفض المرأة عصيانا يعرضها للعقاب بينما الرفض للرجل حق إن شاء أن يرفض. هل أدرك رجل من الرجال عبر العصور كم هو مهين للمرأة أن يمتنع رجل عن إجابة نداء يلده حب مشروع وفى الغالب مقبول. بل أذهب إلى أبعد، وصديقتى هنا تؤيدنى فهى نفسها كانت ضحية الفهم الخاطئ حين تصورت وهى فى مقتبل شبابها أن الزواج يعنى أن الطرفين توصلا إلى الصيغة التى تجعل رفض الرجل مفهوما وثمرة تراض وليس خيارا مقدسا بين قائمة طويلة من المقدسات الذكورية. هنا تدخلت الصديقة الأكبر سنا بعد صمت طويل.
قالت «لا شيء، نعم لا شيء يعادل فى قسوته رفض الرجل للمرأة، وبخاصة امرأة تحب. بل، وسأكون صريحة وأضيف، ولا يعادله حتى تردده الفاضح أو ما فشل فى إخفائه من علامات رفض. يعنى مثلا، وهذا هو ما حدث معى وتضررت منه وتألمت آلاما جساما، كنت ألمح قبل أن أطلب. وبعد الطلب أنتظر، أصبر وأصبر وأصبر ولا من مغيث. كنت ألهى كرامتى أو أعزز دفاعاتها بالبحث عن ذرائع ومبررات لرفضه أو تجاهله. خدعت النفس كثيرا. حبى له كان يجدد الصبر ويعززه. هذا الحب كاد يضعفنى. أخجل منكما وأنا أعترف أننى أقف أمامكما بكرامة خدش الرفض سطحها، ولكنى أهنئ نفسى بأننى بعد طول الصبر والمقاومة أفقت بعزم على الفرار قبل أن أعجز عن حماية كبريائى ضد كسر لن تعود بعده تلك الكبرياء ناعمة الملمس الخالية من خدوش. أعرف أننى تأخرت فى اتخاذ قرارى. أنت من جيل مختلف ولكنى أتفق معك وإن متأخرة فى أن البقاء زوجة بحب يتآكل وكرامة خدشت ثم انكسرت خيارٌ لا تتحمل عبء تكلفته امرأة حقا أحبت».
***
تدخلت، أنا المنتمى إلى جيل ثالث وجنس ثان، لأبشر بأننا على أبواب ثورة سوف تغير الكثير من مفهوم الناس للحب وعلاقات المحبين ببعضهم البعض. كنت فى هذه المقابلة شاهدا على اقتناعات متباينة لامرأتين من جيلين مختلفين. لاحظت مثلا أن الحب فى فهم إحداهما أبدى ويستحق الصبر ثم الصبر ثم الصبر للمحافظة عليه ولدى الأخرى وظيفة يؤديها طرفان، يؤديانها معا فإن غاب أحدهما أو تراجع حرصه على تنميتها والارتفاع بها إلى مستويات أعلى صارت وظيفة مكلفة ومضنية وفى الغالب معذبة. لاحظت أيضا الفارق الواضح بين ما أحب أن أطلق عليها امرأة الألفية وامرأة الجيل الأسبق. دعونا لا نغفل حقيقة أن ابنة الألفية هى ثمرة حقبة الثورات المتلاحقة، فى إقليمنا على الأقل، وأن هذه الثورات أجمعت على الإشادة بدور النساء فى نشوبها وإرساء قواعد ومبادئ اجتماعية هى الآن تتجسد فى دساتير وتشريعات كل الدول التى شهدت ميلاد ثم انكفاء هذه الثورات. نساء الألفية طموحات غير صبورات، ثائرات بطبعهن، دعاة مساواة مع الرجال سواء كانوا أحباء وأزواجا أم ذكورا تزدحم بهم الشوارع والمكاتب ويشتكون.
ثقى يا عزيزتى من جيل الألفية وأنت أيضا يا صديقتى من جيل قبل الألفية أن الرجل يبقى هو الطرف الثانى بامتياز إن تطور فى الاتجاه الصحيح. قالها لى ناصح أمين قبل عقود عديدة: «وحدك يا بنى سترى برج القاهرة مرتفعا جدا. مرتبطا بمن تحب ستراه أقل ارتفاعا». أنا لست واحدا من كثيرين يثنون النساء عن العيش منفردات إن وجدن فى ذلك الراحة والسعادة. ومع ذلك لا أخفى اعتناقى شعارا بسيطا لقنونى إياه وأنا شبل صغير فى فريق الكشافة، أما الشعار، ولعله لا يزال ملصقا بحقائب كل الأشبال ومناديلهم الحمراء، فكان «معا.. نحن أفضل».