بقلم : جميل مطر
استسلمت لمدة طويلة لمسلمة، لم أدرك وقتها أنها زائفة، غرست لدى الاقتناع بأن عقلى الذى نشأ ونضج وحقق ما حقق من أعمال وإنجازات معقولة غير مجهز لإتقان علوم الكمبيوتر وفنون الذكاء غير الطبيعى، وغير مستعد ولا متحمس للمشاركة فى تجارب لفهم بعض أو كل ما يندرج هذه الأيام تحت عنوان الذكاء الاصطناعى.
على ضوء هذا الاقتناع ترددت فى قبول دعوة وصلتنى من المسئولين عن تحرير ونشر صحيفة الخليج للمشاركة فى أعمال ندوة ينظمها مركز الدراسات التابع لها تناقش مدى النجاح الذى تحقق حتى الآن فى استخدامات الذكاء الاصطناعى فى مجالات التنمية والإدارة المحلية وعلوم التواصل. ومن باب الفضول، وقبل أن أرسل اعتذارى، لجأت إلى من هو أقدر منى على استرجاع المعلومات والدراسات السابقة عن الموضوع مركزا على طلب الاطلاع على نبذة محدودة للمعلومات والتحليلات التى تعرضت للدور الذى يفترض أن يقوم به الذكاء الاصطناعى فى خدمة القائمين على صنع السياسة الخارجية وهؤلاء المكلفين بتنفيذها. فعلت هذا وأنا واثق أن صنع السياسة الخارجية وتنفيذها لا يمكن أن يتحققا على الوجه المأمول إلا اعتمادا على عقول بشرية وطبيعية. سألت السؤال الخطأ، سؤال أغلب أبناء جيلى سألوه فتأخروا عن خوض غمار علم جديد. كنا نسأل: هل يمكن لجهاز كمبيوتر أن يفكر؟ ولم ننصت باهتمام واجب إلى من أجاب عن سؤالنا الخطأ بسؤال صحيح، وهل يمكن لغواصة أن تغوص؟ كلاهما وإن فعل، ففكر الكمبيوتر وغاصت الغواصة، فلن يفعل تماما ما يفعله الإنسان أو الحيوان الطبيعى. الكمبيوتر قد لا يفكر كما يفكر الإنسان ولكنه سوف يفكر بطريقة مختلفة. والغواصة لن تغوص للهدف نفسه الذى يغوص من أجله الحوت أو الإنسان وإنما تغوص لأهداف أخرى وبطرق أخرى.
عبارة منقولة عن عالم الفيزياء ستيفين هوكنجز ساهمت إيجابيا فى توجيهى نحو محاولة فهم أبعاد ثورة الذكاء الاصطناعى. نقلوا عنه خشيته من يوم يستفيق فيه الإنسان فلا يجد سببا أو مبررا لوجوده. هوكنجز هو الرجل الذى جعلنى أثق فى معنى ظواهر لم أكن أهتم بها فجدد ثقتى فى العلم ومستقبله، بل كان الرجل الذى جعلنى أبشر، وأحذر فى الوقت نفسه، من أن المستقبل، وأقصد مستقبلا للبشرية مختلفا تماما عن كل مستقبل مر بنا أو مررنا به، صار أقرب إلينا مما نظن، آملين كنا أم مذعورين. عبارة أخرى من عالم آخر متوجس خطرا حفزتنى. تساءل إن كان لدينا شك فى أن الكائن الذى يصنعه الإنسان ليكون أذكى منه سوف يكون، وأقصد الكائن المصطنع، قادرا فى مرحلة لاحقة على أن يصنع هو بنفسه كائنا أذكى من نفسه ومن الإنسان الطبيعى. تساءل أيضا إن كان لدينا شك فى أن هذا الإنسان الآلى الأذكى سوف تكون له إرادة مستقلة تماما عن إرادة الإنسان الطبيعى الذى صنع بعقله البشرى هذا الكيان الأذكى منه. بمعنى آخر، لا يمكننى استبعاد أننا بصدد اصطناع وحش يمكن أن ينقلب على خالقيه فيهلكهم جميعا.
***
أكرر زعمى أننا بصدد مستقبل يكاد يكون على مرمى النظر العادى. أكرر الزعم أيضا بأنه ليس بيننا من لا يعرف أن القطب الأعظم فى عالم الغد القريب جدا هو تلك الدولة التى سوف تملك خلال عقد أو عقدين النسبة الأكبر من المعلومات وتبدع فى توظيفها. أذكر أن الرئيس فلاديمير بوتين وقف يخطب فى مليون طفل ليقول لهم أنه كان هناك ذات يوم فى أمريكا رئيس يدعى ليندون جونسون تنبأ بأن من يفوز فى سباق علوم الفضاء سوف يصبح قائدا لهذا العالم. وقد كان. هذا معيار. المعيار الآخر للقيادة فى رأيى هو السرعة. الدولة الأسرع فى الحركة واتخاذ القرارات وتطوير السياسات وتحديث طبقتها السياسية ونظم التعليم هى الدولة التى أسرعت وسبقت غيرها فى صنع كائنات اصطناعية أكثر وأذكى وتبنت مناهج الذكاء الاصطناعى هى الدولة التى سوف تقود. تعالوا ننظر حولنا، وأقصد فى مجتمعات متفاوتة الحظ فى مجال الذكاء الاصطناعى. سنكتشف على الفور أن الغالبية العظمى من قادة هذه الدول ومفكريها لا يخلو خطاب من خطاباتهم من دعوة إلى السرعة، سرعة الإنجاز وسرعة التغيير وسرعة اتخاذ القرار. مانشيتات الصحف والإعلانات التجارية فى كل مكان حافلة بأوصاف السرعة، طارئ وفورى وعاجل والآن وأيام معدودة وهذه اللحظة وغيرها كثير مرتبط بحال سعى المجتمعات للانتقال بوعى أو بدون وعى فى اتجاه تلبية متطلبات عصر الذكاء الاصطناعى، عصر السرعة اللامحدودة واللانهائية.
***
انطلاقا من الاقتناع بأن وفرة المعلومات وحسن استخدامها بالإضافة إلى عنصر السرعة هما المعياران اللذان سوف يتصدران سباق القوة فى عالم العلاقات الدولية، يمكننا تصور أنواع الفجوات التى سوف تفصل دول المستقبل، أى دول العقد القادم مثلا، عن بعضها البعض متسببة فى احتمال نشوب نزاعات جديدة أو تعميق النزاعات القائمة. أتصور فجوة أظنها تكونت بالفعل، وهى الفجوة التى تفصل الدول «السريعة» عن الدول «البطيئة»، وقد لا تنطبق بالضرورة على الفجوة فى درجة التقدم الاقتصادى والاجتماعى أو فجوة الاستعداد العسكرى أو فجوة مستىوى الدخول. أتصور فجوة أخرى أهم وربما أخطر، وهى الفجوة فى حجم المعلومات المتاحة وطرق استخراجها وكفاءة توظيفها وبخاصة كفاءة عسكرتها، وأقصد تطوير استخداماتها فى تدمير الأعداء بدون استخدام أسلحة دمار شامل. أخشى احتمال أن تظهر هذه الفجوات الأحدث بينما العالم لا يزال يعانى ويلات فجوات أقدم تسببت فيها الثورة الصناعية الأولى وفجوات نشأت أو تعمقت خلال مسيرة العولمة، وفى مقدمتها فجوات البطالة وأزمات الشباب المتلاحقة وفجوة الهويات وفجوات العلاقة المأزومة تاريخيا ودينيا وسياسيا بين الرجل والمرأة.
***
قرأت، وسمعت من وزراء فى أوائل العشرينيات من أعمارهم، دفاعا عن الذكاء الاصطناعى وتقدمه المذهل واختراقه لعديد شئوننا الخاصة جدا وشئوننا العامة بطبيعة الحال. يقولون عن الذكاء الاصطناعى إنه «آمن» أكثر من الذكاء الطبيعى. الذكاء الطبيعى يصدر عن مخ بشرى، أى ذكاء يتصف بصفة تتصف بها أغلب منتجات هذا المخ وهى العشوائية. أما الذكاء الاصطناعى فيصدر متسما بالدقة لأنه تشكل عبر عملية رقمية معقدة نادرا ما تخطئ. لا ينكر هؤلاء المدافعون حقيقة أن منتج الذكاء الاصطناعى يميل فى شكله النهائى إلى الحتمية. بمعنى آخر يكون أقرب إلى عقل المتشددين فكريا وأيديولوجيا. هو منتج لا مرونة فيه ولا يتعامل مع عديد المتغيرات بكفاءة المنتج البشرى. قرأت بين ما قرأت أن حبرا يهوديا وصف الشكوك السائدة فى عالم اليوم حول التحول المتسارع نحو استخدامات الذكاء الاصطناعى، بأنها مثل الشكوك اليهودية التى سادت فى قرون مضت حول «الجوييم» أى غير اليهود من البشر. كان اليهود يعتبرون فرد الجوييم إنسانا بلا روح. بكلمات أخرى هو كيان ناقص القدرة على التمييز بين الطيب والسيئ والأخيار والأشرار. كائن يفتقر إلى «الفطنة». خلاصة المقارنة بين الجوييم فى أساطير اليهود فى العصور الوسطى والعقل الاصطناعى الذكى هى أن كليهما، حسب رأى هذا الحبر، مهيأ للتسبب فى كارثة تحل بالبشر. قليلون فى أيامنا من يشارك فى هذا الرأى. الكل مندفع، أو مدفوع، نحو زمن الأسبقية فيه لذكاء فلنسمه إرضاء للمعترضين على صفة الاصطناعى بذكاء «مركز أو مجمع أو مقوى».
***
منذ القدم والإنسان يحلم بكائن اصطناعى تجتمع فيه خاصيتا الوفاء والذكاء. يريد أن يخدمه هذا الكائن ويكون طوع بنانه. كان حلمه الأول، كما نعرف، كائنا أسطوريا نصفه إنسان والنصف الآخر حصان. كائن يجمع فى جسد واحد عقل الإنسان ووفاء وصدق وشجاعة الحصان. هو حلم الحكام فى كل العصور. لذلك أتصور أنه فى عصرنا الراهن تستعد الدول الحصيفة بكل طاقاتها ليكون لديها خلال عامين أو ثلاثة على الأكثر طواقم بشرية وإلكترونية مدربة تدريبا عاليا على التعامل مع أساليب وآليات الذكاء الاصطناعى المستخدم فى دول جارة أو بعيدة ومع أدوات هذا الذكاء المتوافرة لدى بيروقراطيتها العاملة فى مجال إدارة علاقات الدولة الخارجية. أفهم أن القضية الأهم، ليس فقط فى بلدنا ولكن أيضا فى كل البلاد هى تحقيق شروط المعيار الأول للقيادة والنفوذ فى النظام العالمى المعاصر وهو استخراج أكبر قدر ممكن من المعلومات وإعدادها، أى المعلومات الخام، لوظائف معينة فى حقل السياسة الخارجية ووضعها بالفعل موضع التنفيذ ثم تكليف الأجهزة المنوط بها تهيئة مكانة مناسبة للدولة فى الخارج، وأقصد بهذه الأجهزة تحديدا البيروقراطيتين الدبلوماسية والاستخباراتية وما يتبعهما من تفرعات. أتصور مثلا أن تتطور مناهج تدريب شباب الدبلوماسيين على التعمق فى دراسة وتطبيق أفكار الذكاء الاصطناعى فى النواحى التالية وهى الأبسط والأكثر إلحاحا مثل وظائف جمع المعلومات باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعى وتصنيفها وتشفيرها وتزييفها وإعداد بعضها لمهام المواجهة مع خصوم أو منافسين أو أعداء. مهم أيضا التدريب وبخاصة الدبلوماسيين الأقدم على استخدام الذكاء الاصطناعى فى عملية صنع السياسات الخارجية وإقامة الأحلاف وصناعة عقد المؤتمرات وتنظيمها، وفى مجال المعونات الخارجية والهجرة ومكافحة الإرهاب وكشف مصادر التمويل ومواقع التدريب.
أتصور أيضا أن كبار الدبلوماسيين سوف يتدربون على تطوير برامج لقياس عملية صعود الأمم وانحدارها. أعرف أن الصين حققت فى هذا المجال تقدما لا بأس به وكذلك دول أخرى راحت تكلف متخصصين بإعداد دراسات ومشاريع بحثية تركز على بحث التحولات الطبقية فى المجتمعات المنافسة وبخاصة المجاورة، وتركز بشكل مفهوم على «طبقة المتخصصين فى صناعة الذكاء الاصطناعى»، وهى الطبقة الأخطر والأحدث فى الهيكل الاجتماعى لعديد الدول التى حققت تقدما فى هذا الفرع من ثورة المعلومات. يكفى أن أشير هنا إلى أسماء شركات بعينها، منها أمازون وجوجل وفيسبوك وتوابعها فى وادى السليكون وأودية مماثلة فى الهند والصين وروسيا، مجرد وجودها وتحالفاتها صار يشكل مصدر القلق الأول حتى فى الولايات المتحدة أكبر مخزن لعقول الذكاء الاصطناعى فى الوقت الراهن.
سيكون صعبا للغاية على أجهزة أمن قومى ودبلوماسية لم تتسلح بعد بأدوات الذكاء الاصطناعى بل والتفوق فى استخدامها الصمود فى وجه المحاولات اليومية من جانب دول ليست بالضرورة من الأعداء لاختراق عقل المواطن فى الدولة. هذا من ناحية. من ناحية أخرى سيكون صعبا على أفرادها الفوز فى مفاوضات معقدة مع دبلوماسيين وسياسيين أجانب إذا لم يذهبوا إلى هذه المفاوضات مزودين بأجهزة مكشوفة أو مخفية تمد المفاوض بجميع التفاصيل المتعلقة بشخص المفاوض الأجنبى، نقاط قوته ونقاط ضعفه، قدرات الاحتمال، حالة الصحة النفسية والجسمانية، بيئة التفاوض فى دولة الخصم وتطوراتها دقيقة بدقيقة. هكذا يفاوض الدبلوماسى بثقة معتمدا على ذكاء اصطناعى لابد أن يكون متفوقا على ذكاء الخصم بنوعيه الطبيعى والاصطناعى. يفاوض وهو يتلقى أولا بأول ترجمة مباشرة لكل حديث هامس بأى لغة كانت تبادله أعضاء فريق التفاوض الذى يجلس فى مواجهته.
***
عشت مرحلة كنا كغيرنا من طلاب العلوم الاجتماعية نحلم بيوم يستطيع فيه العلم تزويدنا بأدوات تساعدنا على التنبؤ بالظواهر الاجتماعية قبل حدوثها وبسلوك الإنسان وقراراته فى مواقف معينة قبل اتخاذها. أظن أن أحد أحلامنا نحن أبناء هذه المدرسة السلوكية فى العلوم الاجتماعية نراه اليوم يتحقق أمامنا بدون جهد منا أو من النظريات السلوكية.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع