زرت جميع الدول المهمة، مهمة من وجهة نظرى، باستثناء روسيا. اقتربت مرات عديدة من حدودها ولم أعبر. صادقت كثيرين من دبلوماسييها وصحفييها وكتابها. قرأت عنها ومنها ولا شك أننى تأثرت بآدابها مثلما تأثر العديدون من أبناء جيلى. كانت متعة ونحن فى سن الشباب دراسة فلسفة وأسس الحكم فى روسيا وكانت مشقة وعذابا محاولة التعرف على دخائل العلاقات بين أعضاء النخبة الروسية الحاكمة. أجاد الأصدقاء الروس إخفاءها فى العصر السوفييتى وبالغ الأصدقاء فى العصر البوتينى فى التعتيم عليها. وفى الحالتين كان التعرف يستحق الجهد، ففى مثل هذه الأنظمة السياسية، أنظمة حكم الرجل الواحد والحزب الواحد، يصعب حتى يكاد يستحيل استشراف مستقبلها بدون التعرف على طبيعة العلاقات بين أعضاء النخبة المحيطة بشخص الرئيس أو بقيادة الحزب الحاكم.
جرت فى روسيا قبل يومين عملية تصويت بهدف تجديد أمر سياسى واقع. الرئيس فلاديمير بوتين يشعر أنه لم يحقق كل ما يرومه من أهداف فأراد تجديد ولايته لفترة دستورية أخرى فكان له ما أراد. من ناحيتى أعرف أن واجبى أن أكون موضوعيا ما أمكننى، فالتزام الموضوعية فى الكتابة السياسية صعب وإن بدا فى الكلام سهلا. عندما أقول إن الرئيس بوتين أراد تجديد ولايته كان يجب أن أضيف بأن أغلبية فى صفوف شعوب روسيا أرادت الشىء نفسه. الناس هناك أو نسبة معتبرة منهم تريد أن يبقى الرئيس بوتين، وليس أى شخص آخر، فى قمة الحكم حتى سنة 2024 وربما أكثر إن سمحت ظروف الرئيس. بهذا المعنى لم تكن «الانتخابات» الرئاسية فى روسيا بالنسبة لى مصدر إثارة أو دافع تغيير أو إضافة أكاديمية ولكنها كانت وستظل كاشفة ومؤكدة لقناعات معينة عن روسيا وموقعها فى نفوس شعبها أو شعوبها وأسس الحكم فيها وكذلك موقعها فى العالم.
لا مبالغة كبيرة فى القول بأن الكراهية للغرب كانت الطاقة التى شجعت الناخب الروسى على أن يخرج فى يوم قارس البرودة وفى درجة حرارة تحت الصفر لينتخب الرئيس القائم منذ سنوات عديدة رئيسا لفترة جديدة. لم تكن هناك حملة انتخابية بالمعنى السائد ولكن المتابعة العادية لمنتجات الإعلام الروسى خلال الأسابيع الأخيرة كشفت لى عن طفرة فى المعلومات عن الغرب وبعضها مزيف أو مبالغ فيه أو معالج بتدخلات شتى. كشفت أيضا عن عمق وانتشار الرأى المناهض للغرب. كادت الحملة ضد الغرب تطغى على إنجازات بوتين الداخلية والخارجية. تأكد حدسى من أمرين غير متصلين. حددت الهيئة العليا للانتخابات يوم 18 مارس موعدا لإجراء الانتخابات. لماذا 18 مارس؟ بحثت وتقصيت لأكتشف أن تحديد هذا الموعد تم بناء على اقتراح من حزب روسيا المتحدة، الحزب المساند بشدة للرئيس بوتين، وربما جاء الاقتراح من الرئيس شخصيا بهدف الاحتفال بالذكرى الرابعة لاحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وبمعنى روسى أدق، ذكرى استعادة القرم للوطن الأم. لا ننسى أن بوتين باستعادته شبه جزيرة القرم كان يحقق للشعب الروسى انتصارا « تاريخيا وقوميا» على الغرب، الغرب الذى حاول مرارا، حسب المؤرخين والوطنيين الروس، سلب القرم من أرض الوطن.
من ناحية أخرى وفى الوقت نفسه تقريبا كان الإعلام الغربى يثير عاصفة انتقادات بهدف التأثير فى توجهات الناخب الروسى، على أمل ساذج فى أن يصوت أغلبية الناخبين أو نسبة كبيرة منهم ضد الرئيس بوتين أو يمتنعوا عن المشاركة. اللافت للانتباه وكان تطورا غير متوقع على الإطلاق أن نرى الإعلام البوتينى يهلل لاهتمام الغرب بجريمة قتل الجاسوس الروسى وابنته. كان الإيحاء المطلوب توليده فى عقل المواطن الروسى هو أن الوطن لا يسمح لخائن بأن يعيش حرا بعد ارتكابه جريمة الخيانة. هنا أيضا كان الهدف إشعال نار الوطنية الروسية ضد الغرب. بكلمات أخرى كان تصعيد المواجهة السياسية والإعلامية مع الغرب هدفا لتعبئة المواطنين وأغلبهم، فى رأى بوتين وحكومته، يكرهون الغرب.
كانت انتخابات روسيا كاشفة فى مجال آخر غير كراهية الروس للغرب. لقد أعلت هذه الانتخابات من شأن ما صار متداولا بكثرة فى الكتابات الغربية، أعلت من شأن الديموقراطية اللا ليبرالية، الشكل ديموقراطى والجوهر خالى من الليبرالية إن لم يكن متربصا بها وطاردا لها. لا أحد يتهم فلاديمير بوتين بأنه خدع شعبه كأن يقدم نفسه ديموقراطيا ليبراليا ثم يكتشف الشعب أنه خان العهد فصار ديموقراطيا فى الشكل مستبدا فى الجوهر. كلنا نذكر، أو أنا على الأقل أذكر، أن بوتين بدأ إصلاحاته باعتقال رجال أعمال نهبوا الاقتصاد الروسى باسم الخصخصة وأمر بنفى أو طرد آخرين ومصادرة ثرواتهم دون محاكمة ومنهم عشرات يعيشون بالمال المنهوب حياة سفه وجريمة منظمة واغتيالات متبادلة فى عديد المدن الغربية وبعض مدن الشرق الأوسط.
كانت الهيمنة على وسائط الإعلام الهدف الثانى لبوتين، أو لعله الهدف الأول مكررا. يستطيع بوتين وجماعته أن يفخروا بأن هيمنتهم على الإعلام الروسى تحققت بعد أن أصبحت أهم القنوات التليفزيونية والصحف والدوريات والإذاعات خاضعة تماما للسلطة. بمعنى آخر تحقق لبوتين فى أقل من عشرين عاما رأيا عام أوحد لا يشاركه أو يشكك فيه أو يقلل من أهميته رأى آخر. كان الثمن فادحا ولا شك. إذ قامت وكالة الأمن الفيدرالى التى ورثت سلطات جهاز الاستخبارات العام فى العهد السوفييتى بمطاردة الصحفيات والصحفيين المعارضين والمترددين فاغتالت منهم من اغتالت واعتقلت أو شوهت سمعة المئات وتحكمت فى سوق الإعلانات.
كان المجتمع المدنى الهدف الثالث، ولعله أيضا الهدف الأول مكررا بمعنى أنه كان فى نظر الرئيس بوتين يأتى فى نفس درجة أهمية بث الكراهية ضد الغرب أو الاستفادة من وجودها وفى نفس درجة أهمية إخضاع الإعلام لسلطة الدولة ولأجهزة الاستخبارات تحديدا. هنا لم تتوقف الدولة عند حد تقنين أوضاع منظمات وأنشطة المجتمع المدنى. ذهبت خطوة أبعد نحو هدف دق إسفين فى العلاقة بين الشعب عامة والمجتمع المدنى حين اتهمت منظماته وأفراده بالعمالة للغرب لاعتمادها عليه فى التمويل والإرشاد والتدريب. النتيجة أنه عندما جاء يوم الانتخابات لم يكن هناك فى روسيا منظمات مجتمع مدنى مستقلة لتراقب لجان الانتخاب، ولم يكن هناك فى روسيا صحافة مستقلة تناقش بالرأى والرأى الآخر حصيلة سنوات حكم الرئيس بوتين فى الماضى وبرنامجه الانتخابى إن وجد. لم يوجد على آية حال برنامج انتخابى فالرئيس لا يريد أن يكبل نفسه ببرنامج والناخب الروسى لا يريد فى الظروف الراهنة أكثر من استمرار الموجود.
كانت الانتخابات الروسية كاشفة فى جوانب أخرى أراها شديدة الأهمية وكثيرا ما يرفض ليبراليون التوقف عندها والبناء عليها. أقصد تحديدا واقع وجود قطاع كبير فى سكان روسيا يتذكر بوضوح شديد وألم قاس ومرارة عميقة أيام الفوضى التى عاش فيها الروس فى أعقاب سقوط النظام السوفييتى. رئيس عربيد على قمة السلطة محاط بخبراء غربيين فى الخصخصة المالية والاقتصادية والتغيير السياسى. شوارع مخضبة بدماء عناصر فى عصابات جريمة منظمة تتمدد كالأخطبوط تستنزف ثروات البلاد. لاهيبة للسلطة السياسية ورموزها كالشرطة وأجهزة الاستخبارات والكرملين. الجيش تدهورت حالته وروسيا تنحدر مكانتها انحدارا رهيبا فى نظر العالم الخارجى، حتى صار الناس فى عديد دول أوروبا لا يعرفون عن روسيا إلا غسيل الأموال ودعارة النساء وعمليات الاغتيال. بقى الحال على هذا الوضع لسنوات حتى جاء بوتين بعقد اجتماعى عقده مع الشعب عنوانه استعادة الأمن ومكانة روسيا فى المجتمع الدولى مقابل تفويض لبوتين بالسلطة المطلقة. لم يكن بوتين بهذا العقد الاجتماعى يبتكر ممارسة جديدة فى التاريخ السياسى لروسيا، هذا العقد موجود فى روسيا يلخص شريعة الحكم منذ عصر الرومانوف مرورا بلينين فستالين، ولم يعرف الروس على امتداد تاريخهم عقدا آخر.
يبقى لافتا الاهتمام الدور الذى تقوم به أجهزة تزوير المعلومات وتزييفها فى إطار عملية التدخل فى الحملات الانتخابية التى تجرى فى الداخل الروسى منذ أنشئت وكالة الانترنت الشهيرة فى عام 2012 وتلك التدخلات التى تجرى فى الخارج. نعرف من القليل الذى تسرب إلينا عن هذه العمليات أن الأجهزة الروسية صارت تجيد هذا الفن التخريبى إلى حد الثقة فى أن تمارسه خارج الحدود فى عديد الدول وبخاصة الغربية. لدينا ما يكفى لإقناعنا بكفاءة هذه الأجهزة فى الداخل الروسى بينما نفتقر إلى معلومات موثقة عن عملياتها فى الولايات المتحدة، وكلنا فى انتظار نتيجة التحقيقات التى يجريها روبرت موللر فى واشنطن عن تواطؤ محتمل بين حملة دونالد ترامب الانتخابية والحكومة الروسية.
روسيا عادت فى ظل حكم فلاديمير بوتين دولة كبرى لها تأثير. لا يجوز بعد اليوم الاستهانة بهذه الدولة ولا بكفاءة وقدرات حاكمها الأوحد، وبخاصة بعد أن أصبحت نموذجا يحتذى. حكام كثيرون وبخاصة فى العالم الثالث يحسدون روسيا على ما حققته تحت رئاسة بوتين من أمن ومكانة. هم فى الوقت نفسه يحسدون الصين على نموذجها الذى تسوقه منافسا للنموذج الروسى. النموذجان مطروحان ولا أشك للحظة واحدة فى أن حكاما فى أوروبا الشرقية كما فى إفريقيا والشرق الأوسط سوف يبتكرون توليفة من النظامين كنماذج محلية، نماذج تلتزم شكلا أو آخر من أشكال الديموقراطية، وفى الوقت نفسه تجدد كراهيتها لجميع أشكال الليبرالية وعدم ثقتها فيها.
نقلاً عن الشروق القاهريه