بقلم:جميل مطر
بعد شهور من الغياب اجتمعن والكمامات على وجوههن. جلسن متباعدات ولكن غير متنافرات. قالت إحداهن بعد أن تبادلن الكلمات المناسبة والمعبرة عن الشوق، أنا لا أذكر أننا اجتمعنا من قبل دون أن نتحاضن ونتبادل القبلات. لا أخفيكن الشعور بأننا نبدو للغرباء، غرباء مثلهن. قالت إحداهن، أنا واحدة من بشر يعتقدون أن اللمس ضرورة لا غنى عنها فى العلاقات بين البشر. ولكن ليس كل اللمس. لقد انحبسنا شهورا فى أمكنة مغلقة لا نفعل شيئا غير أن نتلامس. أرجو المعذرة إذا صرحت أن هناك من اللمس ما يثير النفور. أنتِ إذا أجبرتك الظروف على أن تتبادلى اللمس مع شخص مئات المرات كل يوم ففى نهاية اليوم ستملين صحبة هذا الشخص، هذا إذا لم تكونى قد قررت الهروب إلى النوم المبكر أو إلى المطبخ. لا يهم إن كان الشخص الساعى للالتصاق طفلا فى الثانية من عمره أو رجلا فى الأربعين.
***
تدخلت زميلة بالتعليق التالى.. معك كل العذر فى هذه المصارحة. أظن أن لا أحد هنا فى هذه الحديقة، حتى المضيف الموقر، يختلف معك. أنا لن أختلف فالهم على القلب أكبر من أن نستطيع إخفاءه. كانت شهورا ثقيلة جرى خلالها اختبار قدراتنا على الصمود واختبار صدق عواطفنا ومشاعرنا واختبار العلاقة بين العقل والقلب فى ظروف غير عادية. ولكن دعونى أعترف أنه فى حالتى كانت نتائج معظم الاختبارات سيئة، أو على الأقل غير دافعة للرضا، حتى أننى تمنيت لو كنا تدربنا على هذا الوضع قبل تعرضنا لغزوة الكورونا. أعترف أيضا أن بعضنا ــ وأظن أن من هذا البعض اثنتين موجودتين معنا الآن ــ اكتسب خبرة ثمينة فى مجالات لم تكن قبل الغزو محل اهتمام كبير.
***
تدخلت ضيفة لتقدم نفسها كواحدة من الاثنتين اللتين تعترفان بأنهما اكتسبتا خبرة ثمينة فى أمور لم تكن تحظى باهتمام خاص من جانبهما. سيدى المضيف، زميلاتى العزيزات! هل تذكرون ماذا كانت تفعل بنا ونحن صغار «غمزة» من عين الأم فى حضور زوار فى المنزل. كانت الغمزة كافية لردع أى منا عن التمادى فى الكلام فى أمر غير مباح الكلام فيه أمام الكبار أو الغرباء. كنا الأسبوع الماضى فى زيارة لعائلة انحبست شهورا عن الاختلاط. دخلت علينا طفلة فى السادسة عادت لتوها من يوم مدرسى لم يتجاوز ساعتين. تصرفت بغرابة غير معتادة. كانت تحكى عن أصحابها الجدد. قالت ويداها ترقصان وعيناها فى وضع الحلم ورأسها فى وضع الشموخ، «اتعرفت النهاردة على فريدة وعلى وبقوا ماى بيست فريندز، بس اتعرفت بقى على ولد اسمه توم ووقعت فى حبه». لم تقل أحبته أو أحبه ولكن قالت وقعت فى حبه. عبارة بعضنا تقدم فى العمر ولم ينطق بها فى حياته الطويلة مرة واحدة. لم تتوقف الطفلة عن الحديث غير مدركة حال الحرج التى سادت غرفة الاستقبال. لم يعرف الأب ماذا يفعل. رحنا جميعا نتساءل فى سرنا عن الطريق الذى سلكته هذه العبارة حتى وصلت إلى طفلة فى هذا العمر. هل الأهل مصدرها أو ناقلوها أم أفلام الرسوم المتحركة الناطقة بالعربية وإن بلهجة خليجية. انشغلنا بالتعامل مع الحرج فلم ننتبه إلى الأم وهى تغمز بعينها لابنتها الأكبر. بعد دقائق كانت الابنة الأكبر تداعب الصغرى حتى أقنعتها بمصاحبتها لغرض ما تتمناه خارج هذه الحديقة المشحونة بالتوتر. هكذا تخلصت الأم من موقف الحرج بلياقة تتناسب والموقف. علق المضيف، وهو أنا، على مداخلة الزميلة مذكرا بأبيه الذى كانت نظرة واحدة من تحت نظارته تكفى لردع طفل من أطفاله بدأ يتهور فى حضور الغرباء. تصرف لائق يكاد لا يشعر به أحد سوى طرفى المسألة، الأب والطفل المتهور.
***
الحديث عن اللياقة ودورها فى التعامل مع أجواء يفرضها الوضع الحالى، وضع الانعزال، دفع زميلات لم يتحدثن من قبل إلى طلب المشاركة. قالت إحداهن، دعونا نتسلى بحديث يساعدنا فى مواجهاتنا اليومية مع سلوكيات «القبح والجليطة»، وما أكثرها هذه الأيام وما أغلظها. أسال النفس كثيرا لماذا لم يعد الزوج فى أيامنا هذه يتصرف كما كان يفعل الإمبراطور فى الأسطورة. كان إذا نامت زوجته أو محظيته فوق كم لباس نومه ظل ساهرا طول الليل يخشى إن تحرك أيقظها. يا ألله، حقا أسطورة!
قالت أخرى، أنا لن أنسى تصرفات أمى ولكن لن أجاريها فقد تغير الرجال، كل الرجال.. كانت تتعمد أمامى الكشف عن عمق حبها لأبى مع مبالغات لا تخفى. كثير ما سمعته منها عن أنها لم تحمل أبى يوما مسئولية تبعات حبهما لبعضهما. كانت تنفخ فى أذنى بدروس من نوع «مهما بالغ أو قصر، ومهما طال غيابه أو حضوره، فهو حر فيما يفعل. سيد الكل. لقد استمتعت طول حياتى الزوجية بالهدوء والاستقرار بأقل تكلفة ممكنة، لياقة غلفت بها كل خطاباتى وسلوكياتى الزوجية». استطردت الزميلة قائلة، «لا أخفيكم أننى أتصور أنه حتى أمى النموذج فى ممارسة اللياقة ما كانت لتتحمل خلال شهور الغزو الفيروسى الاستمرار فى ممارسة اللياقة بالشكل الذى مارسته قبل أربعين أو خمسين عاما. سمعت صديقا يكبرنى، كان يحذرنى من أن أختار أن أعيش فى جلباب أمى. قال، وهو الخبير، احذروا اللياقة الزائدة فى علاقاتكم الزوجية فهى «موصل غير جيد للعواطف بين الزوجين، والعشاق بوجه عام».
***
تحدثت زميلة أخرى عن صديق هاتفها شاكيا «كتبت مقالا أعترف لك أننى تجاوزت فيه حدود اللياقة فى العلاقة مع الصحيفة التى أكتب فيها. تجاوزتها حين انتقدت فى المقال تصرفات الرئيس دونالد ترامب التى تسببت فى أذى كبير لشعوب ومصالح عديدة، بينما الصحيفة لا تخفى التزامها موقف حكومتها الملتزم بدوره دعم الرئيس ترامب ماليا وسياسيا فى الانتخابات القادمة. طبعا امتنعت الصحيفة عن نشر المقال». استطرد الصديق الشاكى قائلا «شعرت لأول وهلة أن الصحيفة لم تلتزم اللياقة المهنية عندما اعتذرت عن عدم النشر بينما كان يجب أن أكون أنا المبادر بالاعتذار لعدم توخى اللياقة بإرسالى مقال أعلم مسبقا أنه يخالف التزام الصحيفة دعم الرئيس الأمريكى وأن رفض النشر سوف يضع الصحيفة فى حرج تجاهى».
***
تأملت السيدات المجتمعات فى ضيافتى فى الشكوى. أدلت كل منهن بتعليق يتناسب والظرف السياسى الراهن كما تراه صاحبة التعليق، إلا واحدة اختارت أن ترد بقصة بطلتها الملكة فكتوريا. تقول القصة إن شخصا أجنبيا عالى المكانة فى بلده كان يزور الملكة. استقبلته كما يستقبل الضيوف الأجانب فى قصر ملكى. أمرت فحضر الشاى مع شطائر الزبد والخيار والحلوى المعهودة. وكالعادة حمَلَت صينية الشاى إلى جانب دورق الشاى ووعاء الحليب وصحن السكر سلطانية من الفضة بها بعض الماء وورقة من زهرة. انتهى الضيف من شرب الشاى وامتدت يده إلى سلطانية الماء المخصصة لغسل الأصابع فشرب الماء وجفف شفتيه بالفوطة. فى الحال وبدون تردد مدت الملكة يدها إلى سلطانية الماء المخصصة لها ورفعتها إلى فمها لتشرب منها كما فعل الضيف تفاديا لحرج يقع لو أنها مدت أصابعها فى سلطانيتها لتغسلها أمام عينيه. لياقة ما بعدها لياقة.
علقت موجها الحديث إلى المتدخلة ومحذرا. «أعتقد أن اللياقة لو زادت عن حد مناسب انقلبت على أهدافها. قارنى يا ابنتى قصة الملكة بقصة زوجة الماركيز دى ساد. كانت تزوره فى سجن الباستيل لتجمع ملابسه المستعملة لتغسلها وتتعمد التلذذ أمامه بدس أنفها فى ملابسه الداخلية وتسبيل عينيها استمتاعا. اللياقة هنا وإن أحسن القصد لا تخلف إلا الأذى للعلاقة الزوجية أو العاطفية أو أى علاقة أخرى».
***
نهضت إحدى السيدات علامة انتهاء الجلسة، نهض الجميع باستثنائى فاستأذنت فى دقائق إضافية لأتكلم عن مقال نشر أخيرا يحكى عن أسطورة يتناقلها الشيوخ فى قبائل الأمازون. تقول الأسطورة إن القمر والشمس يركبان قاربا يطوف بهما أرجاء الكون. يسافران فى قارب واحد. العالم بخير طالما حافظ كل منهما على مسافة تفصل بينهما. اقتراب الشمس كثيرا من القمر يزيده صمتا وإظلاما. والاقتراب الشديد للقمر من الشمس يحرق العالم. المسافات مهمة لسلامة الكون والمجتمعات والبشر أيضا وبخاصة العلاقة بين الرجل والمرأة.. هناك ما أسميه روح الرقص التى كثيرا ما تتقمص هذه العلاقة. عادت الضيوف، كل إلى مقعدها فى انتظار المزيد. عدت بدورى لشرح ما قصدت بروح الرقص. قلت «روح الرقص هى الحرص الدائم بين الرجل والمرأة على التزام المسافة المناسبة خلال الرقصة. المسافة المناسبة تعنى احترام الرجل لكيان شريكته، هى إعلان نية بعدم الرغبة فى إلغاء هذا الكيان سواء بالاستحواذ أو بالإنكار. المسافة الاجتماعية المناسبة هى أيضا شرط حيوى للمحافظة على النفس وحريتها فى الحركة، فضلا عن كونها الدليل على جدوى نظرية (الاثنان فى واحد) فى الزواج الصالح. وليكن معلوما ومفهوما أنه إذا اختلت المسافة بين الاثنين اختل الزواج برمته، وإذا اختلت بين حبيبين ذوى الحب وقضى أمره».