بقلم : جميل مطر
ودعتنى سكرتيرة مضيفى مكررة اعتذارها عن فشلها فى تغيير حجز مقعدى على الطائرة من موقع بين راكبين إلى مقعد يقع على أحد ممرى الطائرة. الذنب ذنبى فقد ترددت أكثر مما يمكن أن تتحمله شركة الطيران من تردد راكب فى زمن صارت لها ولغيرها الكلمة العليا فى كثير من خياراته. ركبت الطائرة وكلى ثقة فى قدرتى التى يمكن أن أوظف جانبا منها فى إقناع أحد الراكبين المجاورين ثم المضيفة بالموافقة على التغيير. دخلت إلى جوف الطائرة متجها نحو مقعدى فى صحبة مضيفة نصحتنى بأن أحاول تغيير المقعد بعد انطفاء إشارة وضع أحزمة المقاعد. لم أكد أبدأ فى المحاولة حتى جاء الرفض مهذبا جدا من الراكبتين الحائزتين على المقعدين المطلين على الممرين. مرت دقائق استحسنت فيها الوضع القائم. لا أطفال يصرخون والجارتان استعدتا لرحلة غير قصيرة، إحداهما مستعينة بكتاب والثانية بجهاز أيباد. وضع مثالى لراكب مهنته الكتابة وجاهز بفكرة تنتظر تجسيدها مقالا.
***
لحظات وكانت الطائرة تركب السحاب. خفت صوت المحركات وانتهى الركاب من ترتيب أوضاعهم وبدأوا التعرف بنظرات سريعة على جيرانهم. أعرف أن من هوايات كثير من ركاب الطائرات تخمين المهن التى يمارسها رفاق السفر. يخمنونها من خلال التقاط سريع وعابر لعناوين الكتب التى يخرجونها من حقائبهم والأفلام التى قرروا مشاهدتها والأحاديث السريعة المتبادلة مع المضيفات. كانت هواية من هواياتى الشخصية ولا تزال ملاحظة الأساليب المختلفة التى يستخدمها الركاب فور استقرار الطائرة فى الجو فى إرسال واستقبال إشارات رجاء عدم الإزعاج، بعضها أساليب ناعمة جدا وبعضها صريح إلى حد الإحراج. ومع ذلك أستطيع وبكل الثقة أن أقول إن نسبة كبيرة من ركاب الطائرات يفضلون تبادل الحديث مع ركاب لم يعرفوهم من قبل عن اللجوء لأساليب أخرى لتمضية الوقت. لا يمنعهم من أن يبادروا بالحديث إلا إشارة عدم الإزعاج التى بعث بها الجار عقب احتلاله مقعده وإصراره عليها بقية زمن الرحلة.
***
أخرج راكبنا ملفا من حقيبته اليدوية واختار من أوراقه مقالات للقراءة ودفترا للكتابة. فتح الدفتر وكتب فى أعلى وسط الصفحة الأولى كلمة، وتحتها بمسافة كلمات وعبارات محشورة داخل دوائر لا يكشف مجموعها للغريب المتطفل نية الكاتب. انغمس فى التفكير فطلب فنجان قهوة واعتذر عن تناول ما عرضته المضيفة من طعام متعدد الجنسيات وشراب متنوع الذوق والمفعول. دفعه الفضول ليرى ما اختارته الجارة على يساره من شراب وطعام. أكثر الفضول لا يخفى. فهو إن لم تره بالعين شعرت به يخترق حواسّ أخرى. قابلته الجارة فى منتصف الطريق، قابلت فضوله الصامت بفضول من عندها. بدأت بالاستفسار عن سبب رفضه الطعام ولم تنتظر الإجابة. أجابت بنفسها على استفسارها حتى لا يجيب بما ينهى به الحديث قبل أن يشبع فضولها. قالت أنت تكتب؟ والكتابة مهنتك؟ فى أى جريدة أو دورية تنشر ما تكتب؟ خاف على وقته أن يضيع فى الانتباه المتقطع إلى أسئلتها وإجاباتها عليها. كان يهز رأسه فتوقف عن هزها فى إشارة واضحة إلى أن الحديث إما أن يكون متبادلا، أو عودى إلى كتابك وأعود إلى دفترى. لحظة صمت عادت بعدها تنظر إلى دفتره المفتوح على صفحة تزينها بخط مرتبك كلمات ودوائر لا تعنى شيئا إلا لكاتبها، وأحيانا لا يفهمها كاتبها نفسه إن غاب عنه دفتره طويلا وبعيدا. نظرت إلى الصفحة وبسرعة انتقلت عيناها تبحث عن عينيه. التقت العيون فتضاعف الفضول. سألت وعيناها معلقتان بعينيه، هل لما تكتب عنوان وهل لى أن أعرفه، وهل أنا الآن أتدخل فيما يعنيك ولا يعنينى..
لم يجب على الفور. عيناه معلقتان بعناوين كثيرة قرأها فى عينى جارته لحظة التقاء العيون. قال لنفسه أنا أمام كنز من القصص المحبوسة فى هذه الرأس لسنوات كثيرة يبحث الآن عمن يحرره. ما أطلقته من أسئلة لم تكن مدفوعة بفضول كما رحت أظن وأبنى استنتاجات. هذه أسئلة تعبر عن رغبة قوية ومكبوتة لدى أسرار وحكايات وطموحات وخيبات تنتظر من يحطم قيودها ويشجعها لتخرج. أغمض عينيه على صوتها يهمس فى أذنه حتى لا تسمعه الجارة الجالسة على يمينه. أنت تكتب موضوعا عن سن الأربعين. تكتب عن هذه المحطة المذهلة فى حياة كل إنسان، رجلا كان أو امرأة. أرجوك لا تقلق أو تنزعج إذا تنبأت وأنا الغريبة عنك بأنك سوف تكتب تحت هذا العنوان حكاية امرأة بعينها اقتربت من الاحتفال بعيدها الأربعين. حكاية ليست ككل الحكايات عن نساء بلغن أو كدن يبلغن الأربعين. ستكتب حكايتى.
***
أتوسل إليك ألا تستغل صراحتى وضعفى فى لحظة أو أخرى وأنا أحكى متأثرة أو متألمة فتسألنى من كنت ومن أكون، أو تحاول استدراجى لمعرفة موقع الدوح الذى سقطت منه ولقب العائلة أو القرية التى نبت فيها هذا الدوح وترعرع. لا تسألنى عن هويتى التى كانت وعائلتى الممتدة إلى آخر الدنيا. هذه قصتى أنا وليست قصة أشخاص فى حياتى. لولاى ما وجدوا وإن أردت اختفوا. كذلك الأماكن، هذه ليست قصة أماكن ومواقع وإنما قصتى فيها أو معها. دعنى من فضلك أحكى قصتى كما أريد أن أحكيها وليس كما تريد أنت أن تسمعها ولا كما تريد أن تكتبها. لن تندم. هذا وعد.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع