بقلم:جميل مطر
وصلنى صوتها على الهاتف ملحا بكل الاحترام المعتاد ومعاتبا بكل الحب الذى نشأ ثم نما عبر سنوات عديدة من الزمالة والرفقة فى مهمة واحدة وفى موقع لم يتغير. قالت، تأخرت يا أستاذى. للمرة الثالثة أو الرابعة خلال مدة قصيرة تتأخر فى تسليم مقالك الأسبوعى، وأنت الكاتب الذى كنا نحسب الوقت على مواعيده. أجبت بصوت خرج همسا منهكا «كنت على وشك تقديم اعتذارى عن عدم الكتابة، وللحق كانت مقالتى أمامى، مكتوبة وجاهزة للنشر، لا ينقصها إلا دفعها للنشر. وأنا لا أريد. لا أريد أن أزيد القلق عند قارئ لا ذنب له وفى الغالب لا شأن له بصناعة الأخبار وتحليلها ونشرها. صرت لا أجد فيما اقرأ وأسمع سوى ما يقلق وبدورنا لم نعد نكتب سوى عن أمور تقلق. لم أحلم يوما بنفسى كاتبا تسبقه سمعة ترويج القلق وإجادة التعليق عليه».
***
القلق فى كل بيت. قلق كالقلق فى كل العالم بسبب تطورات الحرب العالمية ضد الكورونا. خسرنا، وأقصد خسرت البشرية، بكل ما أوتيت من علم وتكنولوجيا وثروات وأطباء وممرضات وسياسيين وقادة عظام، خسرت معاركها الأولى مع الفيروس. مرت سبعة شهور لم نحقق نصرا واحدا حاسما ضده بينما استمر يحصد مئات الألوف من البشر وحده أو متحالفا مع قوى أخرى تناصب الإنسان عداوة أو أكثر. اليوم على غير معظم الأيام الفائتة استيقظت على خبر يفيد أن جامعة اكسفورد على وشك إنتاج لقاح مضاد للفيروس الذى ما زلت أصر على أنه شرير معتذرا لزميلتنا الطبيبة الكاتبة بسمة عبدالعزيز التى حاولت إقناعى بأن لا داعى لوصف الفيروس بالشرير فالشر طبيعته ومهمته.
أعترف بأن موجات من التفاؤل حاولت فى البداية تخفيف حدة القلق، ليس فقط عندى ولكن عند آخرين فى كل أركان الدنيا. كان الأمل أن تنتفض حكومات، نعم أقصد حكومات تنتفض، فتقرر تسوية الخلافات بين بعضها والبعض الآخر، والخلافات بينها وبين شعوبها، والخلافات بين أجهزتها وبعضها البعض. غريب أمر الإنسان، أن يأتى مثل هذا العدو الخارجى ويهدد سلامة البشر والمؤسسات والقيم والحضارة، والسياسيون عنه لاهون بطموحاتهم الشخصية وأوهامهم التوسعية،
لم تعش موجات التفاؤل طويلا. انتهينا، كما فى حالتنا الآن، والقلق يعشش فى كل بيت ومكتب وشارع ومدينة. انتهينا وقد ازدادت الخلافات بين الناس، ارتفعت معدلات الجريمة والتحرش والسرقات وازدادت إثارة حكايات الفساد. حكومات انتهزت الفرصة وشددت قبضتها على أصحاب رأى مغاير أو متردد، وأفراد انضموا لمليشيات مسلحة للنهب أو للقتل ومقابل وعود بحياة رغدة بعد انحسار الوباء وعلى حساب دول ستنفرط.
***
ذات لحظة عشنا مع حلم. الجامعة العربية تتحرك. راح الظن إلى أن دولا بعينها أدركت أن الوقت حان ليجتمع المسئولون عن الصحة فى الدول الأعضاء ويرفعوا تقريرا إلى رؤساء الحكومات وهؤلاء بدورهم يقترحون أن القمة ضرورية لتخصيص موارد كبيرة وتكليف جهات عربية أو دولية تتولى زمام الأمور قبل أن يفتك الفيروس بالأمة. لاحت فرصة أعرف أن كل حريص على مستقبل أفضل لهذه الأمة التعيسة ينتظرها، ينتظر فرصة أن يتحرك القادة العرب تحرك رجل واحد فيقررون وتنفذ قراراتهم، فيعودوا ليقرروا قرارات أخرى وتنفذ قراراتهم. لاحت فرصة لنهوض يوقف الانكسارات ويجدد الأمل ويسد الفراغ أمام الطامعين، كله أو بعضه. لم يعقد الاجتماع ولم تصدر قرارات، وما صدر عن لقاءات بيروقراطية المستوى لم يخدع الناس. تدهورت الأحوال وازدادت الفتن وظهر فراغ الساحات العربية جذابا لكل مغامر وكل مجاور. وغاب الأمل فى انتظار انتفاضة الدول على الجامعة أو انتفاضة الجامعة على أعضائها.
***
ذات لحظة أخرى، اجتمع قادة دول الاتحاد الأوروبى ليقرروا فى أمر خطير. الاتحاد الأوروبى مهدد بالانفراط إذا عجزت دول الاتحاد عن دفع عجلة النمو فى أوروبا وتعويض العجز الناتج عن حرب الكورونا. تعطلت مصانع وتغيرت سلوكيات ملايين البشر وتضخمت أرقام البطالة وتعقدت ظروف الحياة فى دول كثيرة وفى الوقت نفسه لم تكن كل العلاقات بين أعضاء الاتحاد فى حالة جيدة. أربعة أيام عاشتها أوروبا واجمة. تفرغ القادة جميعا بدون استثناء خلالها للقضية الواحدة التى اجتمعوا من أجلها. تركوا عواصمهم ووضعوا الكمامات تواضعا على وجوههم. لم يكن بين البدائل المطروحة الخروج بدون قرار أو بقرار إنشائى أو عاطفى. ظهرت صورهم جادين. وحدة أوروبا كانت على المحك. السؤال الطاغى لأربعة أيام، هل نجدد الأمل فى مستقبل أوروبا أم نستمر فى لهونا اعتمادا على عودة أمريكا لتقود. الطامع فى فشل الاجتماع تمنى الفشل وربما ساعد بالتخريب فى تعميق الخلاف. فى النهاية انتصرت أوروبا. خرجت بمشروع تنمية لسنوات عديدة بدون مساعدة من الولايات المتحدة وفى الواقع ضد رغبة رئيسها ورئيس روسيا ورئيس تركيا.
***
هناك على الناحية الأخرى من الأطلسى يقف رئيس الولايات المتحدة بكل الأنانية المطلقة يعلن من فوق جميع المنابر أن الفيروس صينى المنشأ والهوى والغرض. أدرك مبكرا أن حملته الانتخابية سوف تفتقر إلى قضية «شعبية». الكره الذى نشره فى الشارع الأمريكى عاد إليه محمولا على جناحى فيروس. أقدم على مغامرة لا يقدم عليها إلا مقامر محترف. أدخل الوطن كله شريكا فيها. قال إن الصين انتجت الفيروس فى معاملها وصدرته لأمريكا والعالم، أو أخفت معلومات ظهوره وانتشاره عن عمد لتصيب ملايين البشر فى الغرب بالمرض. لم أخطئ، ولم يخطئ كثيرون غيرى توجسوا شرا من وراء الحملة ضد الصين ليس فقط بسبب الكورونا. كان مثيرا للاهتمام منذ البداية موقف الرئيس ترامب من الصين منذ أن قرر أن يبدى تعاطفا مع روسيا ويقيم صداقة حميمة مع الرئيس بوتين. قدرنا منذ ذلك الحين أن الرئيس لا يهمه شىء قدر اهتمامه بتجديد ولايته، وهذه كما كشفت أجهزة الاستخبارات وتحقيقات موللر تضمنتها روسيا التى تدخلت فى انتخابات الولاية الأولى. لم يكن متصورا أن الرئيس ترامب سوف يحتاج فى وقت مبكر من حكمه إلى إبراز الصين عدوا بالشكل الذى اختاره لها فور اندلاع أزمة الكورونا وهبوط شعبيته بشكل متوالى، بمعنى آخر أدرك ترامب أهمية أن يجعل الكره للصين يجب أن يكون هدف حملته الانتخابية ويأتى قبل أى استراتجية أخرى. اخطأ ترامب حين بالغ فى تصدير الكره وتحشيد الدبلوماسية وحلفاء أمريكا والدفع بقوى بحرية إلى منطقة الباسيفيكى. عرف ترامب أن فى عصر العولمة لا تتمسك الدول بأولوية تعاقداتها السياسية، الأهم دائما التعاقدات التجارية والمالية. حلفاء الأمس هم حلفاء الأمس.. بدا واثقا أنه لو تأخر فسوف يجد دول جنوب شرق آسيا وقد صارت خاضعة لاتفاقات واستثمارات صينية لن تتمكن أمريكا من تخليصها منها. الآن يهرع وزراء أمريكا الأساسيون فى رحلات مكوكية لنشر القلق فى الهند واستراليا وجنوب شرق آسيا واليابان أن احذروا الهيمنة الصينية، أما هو فقد تولى بنفسه إثارة الرعب من الصين فى داخل أمريكا ونشر القلق على امتداد المرحلة الانتخابية مبقيا كل الأبواب مشرعة لاحتمال أن يجد نفسه وحملته الانتخابية والحزب الجمهورى فى وضع يتطلب تأجيل إعلان نتائج الانتخابات وفرض حالة دستورية جديدة فى أنحاء البلاد. الخطر الصينى جاثم وأمن الولايات المتحدة فى خطر.
الشهور القادمة حبلى بشتى أنواع القلق. الكورونا عنصر واحد من عناصر عديدة مثيرة للقلق. الوضع العربى عنصر آخر وحسابات الرئيس ترامب الشخصية عنصر ثالث وجنى إسرائيل ثمار انتصاراتها عنصر رابع وزحف العنف نحو وديان الأنهار الكبرى فى الشرق الأوسط عنصر خامس.
الاقتباس
وحدة أوروبا كانت على المحك. السؤال الطاغى لأربعة أيام، هل نجدد الأمل فى مستقبل أوروبا أم نستمر فى لهونا اعتمادا على عودة أمريكا لتقود.