بقلم:جميل مطر
آلو.. آلو هل تسمعنى، أنا (ع)، أحاول الاتصال بك منذ الشروق وأنت لا ترد. هل أجد عندك اليوم كفايتى من الوقت. لدى الكثير مما أريد التحدث فيه معك وليس مع غيرك. أعرف أنك ستعرض موعدا للقاء يناسبك ويناسبنى لتتجنب الهاتف. أظن أننى لن أتحمل استبدال هذه المكالمة بلقاء أو تأجيلها لموعد آخر. تعرف عنى حرصى على أن نلتقى بين الحين والآخر ولكن تدخلت الكورونا وانشغالاتنا وحالتى النفسية لتحرمنى فرصة اللقاء المباشر خلال الأيام الأخيرة. ألح على ضرورة التحدث إليك اليوم، بل الآن، لأنى منهكة ويائسة إلى أبعد مما تتصور.
ما أسعى للبوح به أمامك لا يقال لغيرك، مثله مثل فصول فى حياتى أنت أحد قلائل سمعوا منى تفاصيلها أو عشناها معا. كنت يا صديقى ولا تزال خير من يؤتمن على أسرار امرأة. لا، لا تشكرنى على هذه الثقة بل أسمح لى أكرر اعتذارى عن إزعاجك فى وقت مبكر، فحاجتى ملحة إلى الارتماء فى أحضان قدرتك الرائعة وربما الفريدة على الإصغاء باهتمام محسوب وحب مدروس وعقل مفتوح.
عزيزى.. أنا لا أنام نوما مريحا. أتقلب فى فراشى معظم الليل. لا أتوقف عن التفكير. أخرج بالليل من غرفتى أدور بالبيت كأنى أبحث عن شىء أو عن أحد. أشعل الضوء لأطفئه. لا أطيق الظلمة ويزعجنى الضوء. تمتد يدى لتقبض على الهاتف المحمول وقبل أن يستقر قرارى على شخص أتصل به أكون قد رميته إلى آخر الفراش فيختفى تحت ملاءة أو ما شابه لا أعثر عليه إلا بجهد وضيق. إن غفوت فربما لثانية أفيق بعدها مذعورة بفعل كابوس لعين يلازمنى بكره وحقد شديدين. أرى نفسى فى الكابوس أجوب غابة يختفى وراء كل شجرة فيها وحش من وحوشها. يرانى فيكشر عن أنيابه ويتخذ مزمجرا وضع الاستعداد للهجوم ويقفز فاستيقظ مفزوعة قبل أن ينزل فوقى ليجثو أو يعض وينهش. لاحظت مرتعبة أن للوحش فى كل كابوس تقاطيع تختلف عن تقاطيع الوحش فى الكابوس السابق. مرات كانت للوحش ثلاث أرجل ومرات يقف على اثنتين. مرات رأيت أسنانه وأنيابه مصفوفة بنظام ومرات رأيتها بين المكسورة والمتبعثرة بغير نظام. مرات رأيت دموعا فى عينيه أو فى عيونه الثلاث أو الأربع، رأيت دموعا حمراء شرسة لم ترحم خوفى ولا ضعفى، أنا الفتاة المسكينة الضائعة كما بدت فى غابة لا يسكنها إلا الوحوش. لم أقابل فى كل الغابات والأحراش التى دخلتها خلال الكوابيس إنسانا واحدا، رجلا كان أو امرأة. الغابة ليست لبشر، أنا دخيلة على ساكنيها. صرت أنام بعين لا تغمض وأخرى بالكاد تغفو. أسأل، وليس من مجيب، ماذا ومن أتى بى إلى هنا؟ هل أمتُّ بصلة إلى هذه الوحوش؟ وحوش تعرفنى فهى تنادينى باسمى قبل أن تخرج لتنقض من وراء الشجر.
جئت إليك يا صديقى لأننى لم أعد أحتمل. أنا التى تعشق النوم لا أنام. لا الأقراص تنفع ولا المشروبات المهدئة. جربت العلاجات الصوفية والهندية. استعنت ببعض الجادين فى علوم النفس والروح وبعض المطلعين على أسرار العالم الخفى. سمعت عجبا. استفدت علما ومعلومات وأضفت إلى المخزون عندى أساطير وحواديت بلا حصر ولم أضف علاجا واحدا.
•••
أنت تعرف عنى ما لا يعرفه الآخرون. أتيت إليك أدعوك لتكون كعادتك معى رفيق سفر أو رحلة. أما الرحلة فستكون فى بعض فصول حياتى، ولتكن فى أهمها. تعالى نعود معا إلى ذات يوم جئت أزورك وأنا أحمل معى خبر وقوعى مرة أخرى فى الحب. لم تندهش. استمعت باهتمام ثم حاولت، وأدين لك بهذه المحاولة، حاولت إثنائى عن الاستطراد فى هذه الجولة من جولات الحب. لم أستجب. استطردت وفى آخر الاستطراد، أى بعد شهور، قلت لى ما لم تقله لى من قبل، قلت بالحرف الواحد «ما سمعته منك لا أسميه حبا ولا ينبئ بحب»، تحديتك فدعوتك إلى حفل زواجنا لتشهد وترى بعينيك وتسمع بأذنيك وتحكم بعقلك.
كل ما يمكن أن أقوله الآن تعرفه. تعرف عن حبى له أكثر مما يمكن أن يعرفه شخص آخر قريب أو بعيد. كنت أحكى لك فلا تصدق. على يديه وبين أحضانه تعلمت، أنا المجربة، نوعا، أو قل أنواعا، من الحب مختلفة. تذكرتك تعدد على مسامعى بعض هذه الأنواع، جربتها جميعا وأكثر. لم أمثل له حقل تجارب وأظن أننى لم أضف إلى موسوعته عن الحب جديدا، كان دائما مجيدا وواثقا يعرف ماذا يريد وماذا أريد. عودنى على ألا نفترق. نأكل معا ونخرج معا وندخل الحمام والمطبخ معا ونشاهد برامج التيلفزيون معا، ونستمع معا إلى أناشيد الصوفية والكلاسيكيات من الموسيقى والغناء الأوروبى. نفترق فقط فى العمل، عمله وعملى، مع أننا لم نكن نفترق عندما ساقنى حظى إلى العمل معه لأتعرف عليه وأحبه وأعرض عليه الزواج منى. أذكر اندهاشك من معدلات سرعاتى فى التعامل مع أنواع متباينة وأحيانا متناقضة مع بعض مفاهيمك عن الحب والزواج. كثيرا ما كنت أرى فى عينيك قلقا لم أتوقف عنده ولا مرة واحدة. أنكرته ولكن للحق والذكرى لم أنكرك. دائما كنت أجد لك العذر. تارة أعتقد أن تجاربك ومعلوماتك وأرصدتك كلها تنتمى إلى ممارسات ومعتنقات لم تتطور. وتارة أتصورك بطبعك وظروف تنشئتك وطبيعة عملك إنسانا خجولا لا ترقى خيالاتك إلى ما يمكن للحب، كما عرفته مع هذا الرجل، أن يفعله فى أخلاق العشاق وسلوكياتهم وولاءاتهم. سألتنى وقتها وأجبتك ولم تصدقنى.
•••
أظنك تذكر بقية القصة بتفاصيلها. أعيد عليك أهم لمحاتها فقط لإنعاش ذاكرتك. تذكر ولاشك أن زوجى، بينما كنت ملقاة فى حضنه، قال «تعرفين (ت) التى تعمل معى منذ شهرين وتعرفين أنها تمر بحالة عصبية معقدة. حاولنا معا حل بعض العقد، نجحنا قليلا وفشلنا كثيرا. بالأمس صارحتنى بحبها لى وأنها على ثقة أن علاجها عندى. أما العلاج فهو أن نلتصق فى العيش معا. السبيل الوحيد إلى هذا الحل أن نتزوج. ذهبت إلى زملائى أعضاء لجنة الحكماء فى جمعيتنا. سألونى إن كنت أحبها فأجبت مؤكدا أنى أحبها جدا فأشاروا بقبول دعوتها فربما يكون بالفعل فى زواجى بها العلاج العاجل والمناسب قبل أن تتدهور حالتها نحو مصير قاتم. اشترطوا شرطا واحدا. اشترطوا أن توافقى».
المشهد يتكرر حرفيا. أنا أيضا كنت أعمل معه عندما وقعت فى حبه. أنا أيضا طلبت منه أن يتزوجنى. لم يتردد وهو المتزوج. وافق على الفور. رجوته أو لعلى توسلت ألا تكون معى زوجة أخرى. وافق. ذكرته بموافقته. لم ينكرها. قال ودموعه فى عينيه «ولكنى أحبك كما أحبها ولا أستطيع العيش بدونك وأنا متأكد أنك لا تستطيعين العيش بدونى.. أرجوك اسحبى هذا الشرط، أنا واثق أن وجودك سوف يساعدنى فى علاجها». أجبته ودموعى تنساب بغزارة وتبلل لحيته وأصابعى المرتعشة لا تزال تمسح شعر رأسه: «ولكنك لم تستشرنى، هل نسيت أننى عضو فى هذه اللجنة. من حقى أن أغضب فقد قبلت عرضها الزواج منها قبل أن تحصل على موافقتى. الآن تطلب الموافقة بعد أن صدر قرارك بالزواج منها. هل فكرت لدقيقة واحدة فى مصير الحب الذى يجمعنا؟ أرجوك، لا تردد مقولتك أن الحب نعمة من الله يهبها لمن يشاء ويسحبها وقت ما يشاء ولا دخل لنا كبشر فى صنعه ورعايته وتبديله. هل فكرت فى التغيير الذى سوف يصيب نمط حياتنا لو أنا وافقت. لن نذهب معا للتبضع إلا بعد استئذان ولن نكون معا فى كل مرة أدخل الحمام وأجلس أمام التليفزيون. سوف أنام فى فراش وأنت فى فراش آخر. هل أدركت خطورة ما سوف أتعرض له وحدى فى هذه الغابة. هل هكذا نتعامل مع الحب، نتنكر له، نقلل من قيمته وهيبته، نقتطع منه وقتا وعاطفة وروعة، نتقاسمه مع آخرين وهو فى الأصل لا يقبل القسمة. ساعدنى من فضلك، ماذا أنا فاعلة بحبى لك؟ لم أسمع أن أحدا أودع حبه إلى حين فى خزانة محكمة الغلق فأفعل بحبى مثله. هل أكون أول من أودعت حبها فى مكان آمن يحميه من التسرب ويحفظ له حراراته ومكانته، عسى أن تعود يوما فتجده فى انتظارك كما تركته؟».
•••
رحل. انتظرت عودته ولم يعد. تعقدت ظروفى كما تعلم. دخلت فى عزلة بزعم الخوف من الكورونا. عشت مع الأمل زمنا. يظن بعض الناس أن العيش مع الأمل علاج وإن مؤقت. يخطئون. لا شيء، لا شيء يعوض عن غياب من نحب. حتى الأمل فى عودته بعد قليل ينحسر، ثم بعد فترة يختفى لتحل محله خيبة الأمل.
أنا الآن امرأة فى متوسط العمر جميلة وجذابة ومرغوبة كما تعرف، أصابتها حالة طبية يعرفها الخبراء بحالة «خيبة أمل مزمنة». علاجها قاسٍ وممتد. يا صديقى أنا لا يهمنى تشخيصهم الذى توصلوا له بعد شهور من العزل والكشف والتحليل والتقصى. لى تشخيصى. ببساطة القصة لك فى ثلاث كلمات: «أنا أحب.. أحب بلا أمل».