بقلم:جميل مطر
كانت دولة عظمى. بنات وأبناء جيلي يذكرون كيف لعبت هذا الدور ومتى وتحت أي ظروف انتهى. أنا كواحد من أبناء هذا الجيل أذكر قرارها إخراج مصر من عباءة التسليح الغربي وإعلانها استعدادها تحمل هذه المسؤولية مع تبعاتها الخطيرة كاملة. أذكر رد فعل الشارع المصري عندما صدر تصريح القيادة السوفياتية الذي حمل التلميح بالتهديد باستعمال أخطر وأهم أسلحة تمتلكها هذه الدولة العظمى إذا لم يتوقف فوراً زحف قوات العدوان الثلاثي في الأراضي المصرية. وبالفعل توقف الزحف، ولهذا السبب وغيره نشطت أجهزة السياسة الخارجية الأميركية للضغط على دول الغزو للانسحاب.
أعتقد أن أكثر المسيسين من بنات وأبناء الجيل الذين أتحدث عنهم أدركوا وقتها معنى الحرب الباردة، كيف تعبر عن نفسها ومتى تهيج وكيف ترتعد لهياجها وانفعالاتها فرائص الدول الأقل شأناً. رأيت بعضاً من هذه الانفعالات وردود فعلها من موقعي في العاصمة الإيطالية يوم أعلنت جمهورية ألمانيا الديمقراطية، أي الشيوعية، الشروع في بناء حائط في وسط برلين يفصل أحياءها الغربية الخاضعة وقتذاك لإدارات الحلفاء الغربيين عن الجانب الذي احتلته وتديره مع حكومة ألمانيا الشرقية القوات السوفياتية في شرق المدينة. كان السور وبقي حتى نهاية عمره وعمرها الرمز الصارخ لما عرف بالحرب الباردة بين كتلتين متصارعتين في العالم.
***
مرت على الشرق الأوسط سنوات أفل فيها نجم روسيا. قبل الأفول جاء وقت كانت السفارة السوفياتية في عدد غير قليل من الدول العربية مقصداً ومزاراً لبعض الصحافيين المحليين، اعتقاداً منهم بأن السفير السوفياتي مشارك أساسي في صنع القرار السياسي الخارجي، وأحياناً كثيرة الداخلي أيضاً. كنت شاهداً في المرحلتين بحكم اهتماماتي وعلاقاتي بأطراف النخب المصرية. أثارني وآخرين اندفاع أميركا نحو الاستفادة العاجلة من سقوط النظام الاشتراكي، كان بالفعل مفيداً متابعة تشكيل طواقم الفنيين والخبراء في الشأن الرأسمالي التي أُرسلت لموسكو لتحويل مجريات الاقتصاد والمجتمع والسياسة فوراً لتجري في مسارات اقتصادات السوق وجمعيات المجتمع الأهلي ومنافذ الرأي الحر. كان واضحاً أن الغرب جاء ليركز على تصفية القطاع العام وتصفية الشركات الحكومية وتحرير الحركة النقابية. كان مفهوماً لدى قطاع كبير من المفكرين أن الغرب، وأميركا تحديداً، هناك بهدف تأكيد هزيمة الاشتراكية نظاماً وآيديولوجيا، ولكن لم يكن خافياً أن روسيا الدولة والإمكانات والتكوين، وكقوة كبرى، كانت هدفاً. بمعنى آخر كانوا هناك لمنع روسيا من النهوض مجدداً، وإن حاولت فستواجه صعوبات جمة.
***
عادت روسيا. كلنا واثقون من أنها نهضت وعادت. ولكن لسنا جميعاً متفقين على شكل هذه العودة ومستواها. بيننا في الشرق الأوسط من يراها وقد عادت تتصرف كما تتصرف الدول العظمى وكما كانت هي نفسها تتصرف قبل أن تنهار في لحظات. وبيننا، في الشرق الأوسط نفسه، من يراها ويتعامل معها كدولة من دول الشرق الأوسط الجديد، هذا الإقليم المفتوح على كل الجنبات، يتوسع هنا اليوم وينكمش هناك غداً. روسيا في نظر هذا النفر دولة إقليمية، تحاول بين لحظة وأخرى أن تتصرف كدولة عظمى، وهو بالفعل ما تفعله في مجلس الأمن بما تملكه من عضوية ثابتة اكتسبتها بحكم ما كان وليس بحكم ما هو حاصل. ليس خافياً على أحد أن هذا الوضع سبب من أسباب التناقص المستمر في فاعلية المجلس بل وفي دور المنظمة الدولية ومكانتها، وسبب من أسباب كثيرة تقف وراء صعوبة التنبؤ بمصير السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، هذا الإقليم الجديد القديم في آن.
***
وراء العودة بشكل عام والعودة على هذا النحو، أي دولة عظمى وإقليمية في آن، أهداف وظروف أتمنى لو درسها شباب السياسيين من بلادنا في أحزابهم ومجالسهم وجامعاتهم. كم دولة في هذا الإقليم جربت أن تنهض ونهضت ثم انكسرت فسقطت ولم تجرب النهوض مرة أخرى أو جربت ونجحت قليلاً. كل الدول هنا، أو بعضها، لديها من القادة من عرف أن لبلده حقاً في أن يكون له عمق استراتيجي يحمي حدوده وجواره وأنهاره العذبة وأوطانه الزرقاء المالحة. لديه قادة حملوا وبثوا على شعوبهم أحلاماً ورثوها. فلاديمير بوتين على سبيل المثال حمل حلم القياصرة في الوصول إلى المياه الدافئة، وها هو يبث الحلم. خلف له أسلافه الشيوعيون قاعدة صناعية، أعاد تشغيل ما استطاع تشغيله بموارد محدودة. نهضت روسيا ولكن بقيت دولة باقتصاد لا يتفوق على اقتصاد دولة أوروبية من الصف الثاني وهي إيطاليا. هنا قيدته الظروف عند حدود أن تلعب بلاده دور الدولة الإقليمية الكبرى إن عجزت عن بلوغ القمة. كانت في نهضتها حاسمة وبخاصة في قرار البدء بالتخلص من عناصر التخلف وأهمهم كل من الإرهابيين والمتشددين في بلاد القوقاز. وبعدها عرف ما يفعله بفائض العسكريين والمتدربين على القتل، فشكل فرق المرتزقة، وكانت هي التي أسهمت في تثبيت أمن الجوار والتوسع في الشرق الأوسط، أي أنه حقق هدفاً استراتيجياً بأقل تكلفة سياسية ونقدية. حدد كذلك هدف اختراق الشرق الأوسط للاقتراب من مصادر تحديد حجم المنتج يومياً من النفط وثمنه، فجعل لروسيا دوراً في هذه السوق كما في سوق الغاز. في الوقت نفسه كان لا بد من بعد النهوض أن تنتقل روسيا لتنفيذ سياسات إيجابية في مسائل الأمن والدفاع، وبالفعل تعددت أساليب روسيا كدولة «عظمى» تسعى لاختراق أستار أمن الداخل في أميركا وأوروبا على حد سواء، والتأثير المباشر في اتجاهات السياسة في دول المعسكر الغربي.
***
ما كان يمكن أن يحقق بوتين ما حقق في الشرق الأوسط وأقاليم الجوار الأخرى ما لم يقرأ أولاً الورقة التي حملت ما عرف بإعلان بريماكوف. احتوت الورقة على مبادئ تحث على عدم التخلي عما تحقق في ظل النظام السوفياتي. هذه الورقة أمنت للرئيس فلاديمير بوتين استمرارية بدونها كان يمكن أن تكون مسيرته أصعب بكثير. كذلك أصابه التوفيق في قمع أول محاولة تمرد على سطوة بلاده في مواجهة زحف الناتو، خرج من هذه التجربة في جورجيا منتصراً على الغرب في أول مواجهة سياسية بعد سقوط الشيوعية. جورجيا في 2008 أكدت له ولنا في الشرق الأوسط وللعالم انحدار أميركا ونهاية القطبية الأحادية. بعد قليل تشجعت فوقفت ضد الاتحاد الأوروبي في أوكرانيا، ثم ضمت شبه جزيرة القرم في 2014، وأفلحت في تأمين معظم دول الجوار بسلاسل اتفاقيات، ثم اقتحمت الشرق الأوسط بدخول سوريا في 2016، وبعدها ليبيا في 2020.
***
روسيا الآن طرف من أطراف الشرق الأوسط. لم تتكلف إلا الشيء الضئيل لتكسب هذه العضوية. ساعدتها عوامل مهمة مثل فراغ القوة في الإقليم، وانقلاب تركيا العسكري الفاشل الذي أجبر تركيا على ربط بعض سياساتها الإقليمية بسياسات روسية، وستبقى تركيا اللاعب المشارك الذي لا غنى عنه في الاستراتيجية الروسية في التخطيط لمستقبل الشرق الأوسط ودور روسيا فيه كلاعب إقليمي وكدولة عالمية.