توقيت القاهرة المحلي 06:10:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قمة العالم بين الأمس واليوم.. متفرقات من الذاكرة

  مصر اليوم -

قمة العالم بين الأمس واليوم متفرقات من الذاكرة

بقلم :جميل مطر

تساءلنا يوم سقطت الشيوعية وانفرط الاتحاد السوفييتى وحلت روسيا محله إن كان النظام الدولى سوف يحتفظ بصفاته وخصائصه التى صاغتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، علما بأن أمريكا قبل عقدين من الانفراط السوفييتى كانت قد سمحت ضمنيا ثم رسميا لحكومة الصين الشعبية بالحلول فى مقعد الصين فى مجلس الأمن وغيره من أجهزة الأمم المتحدة محل حكومة الصين الوطنية. كانت روسيا المنزوعة الإمبراطورية أقل سمعة ووزنا وقوة من الاتحاد السوفييتى، وفى حالة الصين كانت الصين الشعبية أعلى سمعة وأثقل وزنا وأعظم قوة، وفى الحالتين لم تسمح أمريكا بأن تتغير صفات النظام الدولى أو خصائصه، وإن تغيرت أوزان القوى الممثلة له.
•••
نتساءل هذه الأيام مرة أخرى. نتساءل بعد كل التغيرات التى طرأت على كثير من مكونات النظام الدولى ممتدة إلى بعض مفاهيمه الأساسية إن لم يحن وقت تغيير بعض صفات النظام وخصائصه ومهامه. هل نحن بصدد مرحلة أخرى من العناد الأمريكى معنية بالحفاظ على النظام القائم بدون تغيير يذكر، أم نحن على وشك أن نشهد جهودا صينية مكثفة وربما غاضبة من أجل إقامة نظام دولى جديد، أم أننا مقدمون على العيش المشترك فى إطار نظام دولى هجين، نظام يجمع خصائص من القديم مع خصال استجدت وفرضت نفسها وصار الاستمرار فى تجاهلها أو تأجيلها مكلفا لكل من أمريكا وبريطانيا بخاصة، وربما روسيا، وإن كنت أميل أحيانا إلى أن هذه الأخيرة سعيدة بحالها وبما تجنيه وتجمعه من انحدار أو انسحابات أقطاب أخرى، سعيدة بوضعها الراهن ولا تتمنى أى تغيير.
•••
تذكرت اجتماعا جرى مع شو اين لاى رئيس وزراء الصين فى مكتبه بالعاصمة بكين. لم تكن المرة الأولى التى أقابل فيها الرجل. المرة الأولى كانت عندما التقينا قبل أربعة عشر سنة من هذا الاجتماع فى مناسبة عامة فى العاصمة الصينية عندما كنت أعمل بالدبلوماسية. دار الحوار ليلتها مع رئيس الوزراء حول قضايا الغذاء وأرقام الاستهلاك والعلاقة بين ثلاثى الحكم الحزب والحكومة والجيش. وكلها أمور بالمقارنة بالصين الراهنة تجاوزتها الظروف إذ كنا نتحدث عن شعب عدد أفراده لم يتجاوز بكثير الستمائة مليون نسمة، وكانت العلاقات بين الحزب وكل من الجيش والحكومة شديدة التوتر. كان الحزب يمر فى أشد مراحل الانتقال قسوة إذ لم يكن قد مضى على وصوله بكامل قيادته إلى العاصمة أكثر من عشرة أعوام، بمعنى آخر كان الحزب حديث العهد بحياة ومشكلات أهل المدن. كان الهم الأكبر الداخلى هو الاهتمام بحماية الثوار من أمراض المدينة وفسادها وكان الهم الأكبر الخارجى حماية الثورة الصينية من ضغوط وتدخلات الاتحاد السوفييتى.
•••
مرت سنوات وعدت إلى الصين مع الزميل فى الدبلوماسية والبحث الأكاديمى سميح صادق ضمن رحلة آسيوية واسعة شملت الصين واشترك فى الإعداد لها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية حديث النشأة أو التسمية والمتفرع من مؤسسة الأهرام. قاد الوفد الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد اجتماعات تحضيرية عديدة. كانت الصين محطتنا الأولى فى الرحلة. وصلنا بكين نحمل قناعات أهمها ثقتنا جميعا فى أن سنوات قليلة تفصل بيننا وبين أن تصبح آسيا قارة تقود أحداث المستقبل. كان من قناعاتنا أيضا توقع اتساع الفجوة بين قطبى الشيوعية، الصين وروسيا. ولا شك أن المناقشات الأيديولوجية الساخنة التى جرت بين الزميل محمد سيد أحمد والسيد شو اين لاى كانت أقوى دليل على أهمية هذا التوقع من جانبنا والجانب الصينى.
•••
كانت جلسة ممتعة امتدت لساعات طويلة أبدع فيها الجميع. كان هيكل رائعا كنموذج لصحفى قادر على إبهار محدثيه من الأجانب. أنا شخصيا أعلم كم من الكتب عن الصين قرأ قبيل انطلاق الرحلة وكم من الدارسين لآسيا أو فى آسيا قابل ليسأل عن كل كبيرة وصغيرة. انبهرنا بذاكرته. كنا نجتمع مرتين بعد كل زيارة لمسئول كبير. المرة الأولى نجتمع، محمد سيد أحمد وسميح صادق والصحفى اللامع حمدى فؤاد وأنا، لنراجع مذكراتنا عن اللقاء، ثم ينضم إلينا هيكل لنكتشف أنه وهو الذى لا يكتب أثناء اللقاءات جمع من الملاحظات عن المسئول وحاشيته واللوحات أو الصور المعلقة على حوائط الغرفة أكثر من كل ما جمعنا نحن الأربعة. أمتعنا أيضا فى تلك الجلسة المطولة وفى جلسات أخرى كثيرة محمد سيد أحمد، كان ببساطته وذكائه وخفة ظله وإنسانيته عبقرية ناطقة ومتحركة. عبقرية لا تهدأ ومتجددة أذهلت الطرف الآخر.
•••
أذكر لشو اين لاى وصفه الوضع الدولى فى ذلك الحين بالكلمات التالية «هناك الآن فى العالم انقسامات جديدة، وهناك تحالفات جديدة، وهناك فوضى أو تفاعلات عنيفة فى كل مكان». وعندما سئل عن تعريفه للقوى العظمى قال «القوة العظمى حالة وليست مجرد مواصفات».. عدت قبل أيام إلى أوراق أسجل فيها انطباعات سياسية. قرأت ما سجلت. وعلى الفور وجدت نفسى أقارن بين حال العالم فى ذلك الوقت كما وصفه شو اين لاى وما بدا لى فى أوراقى أنه اجتهادات شخصية عن عالم اليوم. أمريكا، الوحيدة بين الدول الكبرى التى ما زالت تستحق صفة القوة العظمى رغم التدهور المريع الذى أصاب سلوكيات نخبها الحاكمة والطبقة السياسية عموما، رأيتها فى السنوات الأخيرة تتصرف كعملاق ضخم فقدت أطرافه وعضلاته التنسيق الضرورى بينها، وهو التنسيق الذى يضمن تحركها باتزان وحسابات دقيقة. أو لعلها كما وصفها أحد كبار المعلقين صارت مثل باخرة كبيرة عابرة للمحيطات لا تتمكن من تغيير اتجاهها إلا بصعوبة بالغة وببطء شديد. لا اختلاف كبير فى هذا الشأن بين عهد ترامب وعهد بايدن وبخاصة فى شأن مواجهة ضرورات إصلاح البنية التحتية ووقف تدهور نظامها الديمقراطى والرأسمالى.
•••
لاحظت أيضا كيف أن بريطانيا وقد فقدت نهائيا وقطعيا صفة العظمى التى ورثتها عن أيام الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس وقد انضمت إلى أوروبا ولم تجد فيها مكانا مريحا، ثم تخلصت وبصعوبة بالغة عن صفتها الأوروبية وهى الصفة التى كادت تلصق بها خلال عضويتها فى الاتحاد الأوروبى، ها هى تعود الآن وبصعوبة أكبر تسعى لاستعادة الدور الذى ارتضته لنفسها منذ الحرب العالمية الثانية كمساعد أو تابع أصغر للقطب الأمريكى برتبة قطب دولى. رأيناها مؤخرا تلعب هذا الدور بامتياز لتكسب لأمريكا ولنفسها ولأستراليا حلفا جديدا، فيه من روح الانتقام من فرنسا التى جعلتها تذوق الأمرين أثناء مفاوضات البريكسيت أكثر مما فيه من أى شيء آخر مثل التنبه إلى ضرورة استعادة روح القومية الأنجلو سكسونية. نراها أيضا تقف أمام نقابات سائقى اللوريات الأوروبية الذين فقدوا وظائفهم فى بريطانيا مع البريكسيت، تقف متسولة إنقاذ اقتصادها من أزمة نقل وتوزيع الوقود.
•••
لا أبالغ إن قلت أننى وجدت فرنسا القطب الثالث فى الحلف الغربى تكاد لا تقوى على تحمل واجبات قيادة الاتحاد الأوروبى فى حال تغيب منطقى من جانب السيدة أنجيلا ميركيل وغياب محتمل من جانب حكومة ألمانية قوية ومتجانسة قادمة. وجدت بين ما وجدت وهو كثير أن ماكرون بذاته أو فرنسا القطب الدولى تتلقى فجأة هذا الكم من الإهانات من حكام أفارقة وعرب. كلنا، إلا قليلون، لم يفتنا منظر وعواقب الصدمة التى تلقاها الرئيس الفرنسى نتيجة تدخله فى الشأن اللبنانى. رأينا فرنسا محشورة فى لبنان فى مواقف لا تحسد عليها. شمت البريطانيون شماتة كبيرة وشمت بعض الأمريكيين والروس. ثم وجدنا من يخرج ليحكى لنا قصة إدخال فرنسا عضوا بين الأقطاب الخمسة أعضاء مجلس الأمن خلال محادثات إنشاء الأمم المتحدة. نعرف الآن أن أمريكا أدخلتها بعد تردد كبير. لم تتمتع فرنسا فى ذلك الوقت بسمعة تليق بصفة القوة العظمى أو بالعضوية الدائمة فى مجلس الأمن. وسواء كان فى القصة اختلاق أو مبالغة تبقى السلوكيات الفرنسية الأخيرة فى الخارج كما فى الداخل ومطالب الاعتذار والتعويض الصادرة من الدول الخارجة من تحت الاستعمار الفرنسى تستوقف المراقب أو المحلل.
***
روسيا العضو الخامس دائم العضوية فى مجلس الأمن ورثت المنصب مثل بريطانيا ربما عن غير حق. ولكن هل يصح أن تظل حاملة للقب القوة العظمى بعد زوال الإمبراطورية الأوراسية الواسعة الأرجاء. شهدت المرحلة الانتقالية التى أطلقها عهد الرئيس يلتسين بداية تراجع النفوذ الروسى داخل أوروبا بخاصة وفى أنحاء أخرى من العالم بشكل عام. أظن أن السياسة الروسية الراهنة فى الشرق الأوسط مثلا لا تضيف الكثير إلى مكانة روسيا كقطب دولى. أشك أنه يوجد لدى موسكو أسباب مقنعة تبرر استخدامها المرتزقة وأساليب ملء الفراغات فى مواقع غير مترابطة الأهداف والخلفيات. أحيانا أجد صعوبة فى فهم المصلحة وراء وجود روسيا، القطب العظيم، فى موقع بسوريا أو ليبيا أو مثلهما مثل وجود تركى أو وجود خليجى.
•••
تغيرت صورة العالم. تغيرت أيضا صورة أقطاب النظام الدولى. شو اين لاى كان على حق عندما اعتبر القوة العظمى حالة وليست وضعا مستقرا ثابت المواصفات. الآن وعلى ضوء معطيات الواقع صرنا نشك فى صلاحية نظام مجلس الأمن بوضعه الراهن وبأوضاع أغلب أقطابه الدائمى العضوية لأداء مهمة حفظ أمن وسلام العالم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قمة العالم بين الأمس واليوم متفرقات من الذاكرة قمة العالم بين الأمس واليوم متفرقات من الذاكرة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon