بقلم:جميل مطر
كان حلما وكاد يتحقق. عشت فجر حياتى بين جدران وبين كبار السن، أحن أحيانا إلى بعضها وإلى ذلك النوع من كبار السن أيضا. ولدت ونضجت فى حمايتها وحمايتهم. أعرف فى أى بيت ولدت. أسمع أن معظم مواليد مصر فى تلك الأيام خرجوا إلى الدنيا على أيدى «دايات» وبين جدران بيوت، نادرا على كل حال أن دخلت أمهاتنا المستشفيات للولادة أو لأسباب أخرى. سمعت عن المستشفى لأول مرة وأنا فى الرابعة من عمرى. كانت إحدى خالاتى فى قاع السلم تبلغ أمى أن شقيقتهن الصغرى نقلوها إلى مستشفى فى حلوان. ثم اختفت عنى أخبارها، اختفت على الأقل عن مسامع الصغار. لم أعد أرى الخالة المريضة فى المناسبات ولا فى الزيارات بين الشقيقات ولا عند جدتى فى استدعاء أو آخر. أظن أنه فى مرحلة أو أخرى وقع تحذير لا مصدر محددا له يمنعنا من الحديث عنها أو النطق باسمها فى حضرة جدتى. أذكر، وللغرابة لم أكن تجاوزت السادسة، اجتماعا لكل الشقيقات برئاسة جدتى، الحاجة جمال، تداولن فيه فى مستقبل أبنة شقيقتهن الصغرى. أدركت وقتها أو فى وقت لاحق، إن ابنة خالتى كانت موضوع الاجتماع بينما كنا، أنا وابنة خالتى، نلعب فى ركن من أركان الغرفة لعبة أطفال. فهمت مما تناثر على مسامعى يومها فى ذلك الاجتماع أو فى بيتنا بين أمى وأبى بعد عودتنا من بيت العائلة أن العائلة قررت بعد نقاشات طويلة أن يعهد لخالتى (ع) برعاية أبنة شقيقتها باعتبار أنها المؤهلة أكثر من غيرها فهى أم لمن هن فى عمرها. قررت العائلة أيضا أن يستمر العمل بهذا القرار إلى أن تتأكد جدتى من أن والد الطفلة قادر على القيام بهذه المهمة وحده أو مع زوجة إذا اختار أن يفعل ذلك.
***
قلت حلمت وتحقق بعض الحلم. أما الحلم فكان من جزئين. فى الجزء الأول أعيش حتى أصل إلى عمر وهيبة ووقار كبار السن من الرجال فى عائلتى الممتدة. الرجال فى عائلة أمى قليلون على عكس الرجال فى عائلة أبى. اللافت فى رجال العائلتين أن جميعهم ظهروا للأغراب أكبر عمرا من الحقيقة. ظهروا فى السبعين أو الثمانين وهم لم يتجاوزوا الستين، وأغلبهم رحلوا فى هذا العمر المبكر أو قبل الوصول إليه. لم يقتصر الأمر على العائلتين ففى الحى الذى نشأت فيه مراهقا لا أذكر أن كان بين أهل أصحابى من تجاوز عمره منتصف السبعينات أو اقترب من الثمانينات. مرات قليلة كان يمر بشارعنا كهل يتوكأ على عصاه. يمشى ببطئ شديد، تكاد قدماه لا تتخليان عن ملامسة الأسفلت وتتوقفان عن الزحف بعد كل خطوتين أو ثلاث. ما أن يظهر على قارعة الطريق حتى نتوقف عن اللعب وتنخفض أصواتنا احتراما. كنا نسمع من أهالينا عن بطولاته وغزارة معلوماته وعمق حكمته الكثير من القصص والروايات. سمعت من نادل المقهى الواقع عند نهاية شارعنا أن الرجل العجوز لا يبخل بعلمه ونوادره وإرشاداته على أحد من جلساء المقهى. كانت لديه الإجابة على كل سؤال والنصيحة لكل محتاج.
***
أظن أن لا أحد غيرى عاش يحلم بأن يكبر بسرعة ليصل إلى عمر تكتمل عنده عناصر هذا العمر المتقدم وهى الهيبة والحكمة والرأى السديد. كلنا فى مرحلة أو أخرى كنا نتمنى وصول المرحلة التالية من العمر وبسرعة. كم مرة لعبنا ونحن صغار لعبة الكبار. الصبيان يرسمون الشوارب ويخنقون رقابهم بأربطة العنق ويفردون عضلات صدورهم ويقفون على أطراف أصابعهم ليكونوا أطول من البنات. أما البنات فيستعرن أحذية بكعوب ويلطخن الفم ومحيطه بأحمر شفاه وتتدلى من عند أكتافهن حتى الأرض حقائب نسائية تحمل علامة شركات فرنسية شهيرة، يمشين فتنجر وراءهن تمسح أرض الملعب. ولكن لا أحد سواى اختار أن يرتدى ثياب الوقار ومنها البابيون محل ربطة العنق التقليدية تعقدها إحدى الفتيات وينثر فوق شعره مسحوقا أبيض ويمسك بكراسة وقلم ويربت بعطف على ظهور الصبيان والبنات.
***
كبرت منتقلا من مرحلة فى العمر إلى أخرى بدون مشكلات كبيرة، وفى كل مرحلة شعرت بأن الزمن يتدخل لحرمانى من تحقيق حلمى، أن أتقدم فى العمر حتى أصير فى صورة الوقورين الذين رسمت لهم صورا شتى فى مخيلتى. فوجئت وغضبت حين اكتشفت أننى سوف أكبر وأشيخ فى الكبر محروما من شعر أبيض كثيف يغطى الرأس منسجما مع مختلف متطلبات الحكمة والهيبة. لم أصل الخامسة والعشرين إلا وكادت الصلعة تكتمل، ومعها كاد يكتمل أيضا انزعاجى من ربطات العنق بكافة أشكالها. أظن أنه لولا تقاليد المهنة، وهى الدبلوماسية، لتخليت عن ربطة العنق فى وقت مبكر. أظن أيضا أننى كنت أقل تعاسة عندما عدت من الدبلوماسية إلى قاعات المحاضرات طالبا لا يهتم كثيرا بشروط فرضها عمر معين. لن أنسى على كل حال لحظات اتخاذ قرار السماح للجراحين بإجراء عملية خطيرة بالمعدة وما أزال فى العشرينات. كنت يومها اتصرف كمن تساوت فى حساباته الحياة مع الغياب عنها.
***
تحقق بعض الحلم، علما بأن ما تحقق لا يتطابق تماما مع تفاصيل الحلم. لا شعر أبيض كثيف كما فى الحلم، بل لا شعر إلا القليل جدا. لا عصا فى اليد أو معلقة فى الذراع لاستند عليها فى المشى، لا جسد متعب يدعم ادعاءات الهيبة والوقار التى استعارها الحلم من صور وأساطير الأقدمين، أو استعان لها بأشكال مرتادى المقاهى من المتقاعدين من كبار الموظفين وشيوخ القبائل وزعماء الطوائف. بمعنى آخر، أصدقائى، بنينا وبنات، هم الآن أمام بقايا شباب فى جسم رجل، بقايا شباب رفضت الانحسار أو الانكسار. وبقايا طفولة التصقت مع صفات أخرى شكلت معا شخصية مبتكرة قال عنها المحبون وبعض الاخصائيين إنها استعصت على اكتمال النضج. خليط من بقايا مرحلة شباب لم تنكسر روحه وبقايا طفولة متأخرة ومتمردة وبوادر شيخوخة مترددة.