توقيت القاهرة المحلي 16:08:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خواطر في عمر يتقدم

  مصر اليوم -

خواطر في عمر يتقدم

بقلم:جميل مطر

أعيش فى عزلة أنا اخترتها ولا سبب ولا أحد دفعنى إليها. شجعنى موقع السكن المؤقت الذى انتقلت إليه على وعد العودة إلى الموقع الأصلى فور انتهاء أصحاب الأمر من ردم ما حفروا أمام بيت المهندسين وما حوله. سنوات مرت، هى بعمر ولاية دونالد ترامب إلا شهورا. تبدو الآن هذه السنوات كما لو كانت فى اضطرابها وهياجها على علاقة بقصة انعزالى وحكايات كوفيدــ19 وثورات شباب وحواديت سقوط عرب وصعود آخرين.
***
قالوا عنى، وأنا شاب أدرس فى الجامعة وشاب أعمل بالدبلوماسية وشاب أعمل بالتفكير والتحليل فى صحيفة كبرى وشاب أساهم فى انعاش العمل العربى المشترك وإدارة برنامج تقديم معونة فنية لدول إفريقية، وشاب مسئول عن دور فى دعم وتمثيل القضية الفلسطينية، ثم باحث وخبير فى منتصف العمر، ومؤسس مركز بحثى فى خريف العمر، وكاتب طول العمر، قالوا عنى أننى لم أهتم يوما اهتماما زائدا بالتفاصيل. عشت تكفينى من التفاصيل ما يسد رمق فضولى، الذى لم يكن فى أى يوم خاصية من أوائل خصائصى. أعترف الآن أن هذا النقص فى تكوينى المعرفى أضاع فرصا كثيرة، وأنقذنى فى الوقت نفسه من ورطات كان يمكن أن تكون جارفة. أعترف أيضا أن هذا النقص اختفى من حياتى يوم أصبحت إنسانا يعيش أياما مثيرة فى عمر متقدم. كل التفاصيل التى لم ألاحظها وأنا شاب أو رجل فى متوسط العمر عادت فى أيام وليالى العمر المتقدم تدق أبواب ذاكرتى وتنضم دون استئذان إلى مخزون هذه الذاكرة. قصص عشت أحافظ عليها عقودا عديدة صارت فجأة بعد انضمام المخزون ملاحم وسرديات وكنوزا معلوماتية ووقائع صمود أو استسلام أو عشق كان الظن أنه دفين. الذكريات بشكلها الجديد حلت بدون استئذان محل ذكريات بقيت، ولكن بما إنها خالية من التفاصيل، بقيت بالية وفى أحسن الأحوال باردة وغير مشبعة.
***
أيتها المجتمعات المحافظة أنا شاهد على تفاصيل ما تمارسين بعيدا عن عيون المتطفلين. حضرت وأنا صغير بالخطأ أو بالتنصت جلسات لكبار السن جرى فيها بالكلمات الصريحة ما لم أكن أسمعه فى بيوتنا من أهلنا وأقاربنا الأصغر سنا. كلمات من هذه الكلمات عادت اليوم تطل من نافذة الانفتاح فى دنيا الذكريات. أثارت فضولى دائما وأنا شاب هواية يمارسها الكبار جدا فى السن من الرجال فى جلسات السمر، هواية الحديث بلغة الإباحيات. من هؤلاء رجال كانوا يحرمون علينا ونحن فى سن المراهقة والشباب النطق بها ويا ويل من يعود من الشارع مع كلمة من هذه الكلمات يسأل فى البيت عن معناها. أذكر الآن كيف أن أبى المحافظ غالبا وسليل شجرة محافظين، كان يأخذنى معه إلى الحلاق أو إلى القهوة على ناصية شارعنا المنتهى عند شارع الترام. هناك فى القهوة أو عند حلاق الحى كان الكبار جدا يتلاقون مع أولادهم وبخاصة من استحق منهم التزيين أو التنزه مكافأة أو واجبا. الآن، الآن فقط، تستعيد ذاكرتى هذا الكم الهائل من كلمات كان الظن أن لسان أبى أو لسان جدى يعف عن النطق بها. سمعتهم وأنا طفل لا أفهم وأستعيدها اليوم وأنا كبير السن مثلهم، بل وأكبر، وسمعتهم وأذكر جيدا أن لا وجه من وجوه وجهاء الحاضرين احمر مرة واحدة على طول جلسات عند حلاق الحى أو سهرات فى بيوت صديقات وأصدقاء لهم. سمعت فى بيروت وصنعاء وفى تونس رجالا تقدم بهم العمر يتقارعون شعرا إباحيا وكلهم من علية القوم المشهود لهم بالعقل المحافظ سياسيا ودينيا وسلوكيا، نعم مشهود لهم على الأقل فى العلن.
***
عدت أخيرا إلى حافظة أوراقى للتأكد من معلومة فى لقاء مع مسئول أجنبى كبير. جرى اللقاء قبل أربعين عام. وجدت ما أردت وبدأت أطوى الصفحة. فجأة توقفت. عدت إلى الصفحة. قرأتها مرتين وثلاثا يا للهول. وجدت القلم يسابق الأفكار ليسجل تفاصيل أخرى عن اللقاء لم ترد فى النص الأول. سجلت معلومات ما كان يجدر بى وأنا الحريص دائما على ألا اتجاهلها أو أدعها تسقط من قلم أثق فى أنه لم يتهور على امتداد عهود صحبتنا. لم أغضب وأنا أقرأ ما فاتنى تسجيله من معلومات قد تهم من كلفنى باللقاء. إنما غضبت لهذا الكم من التفاصيل غير المسجلة من معلومات ظلت محبوسة فى خزانة الذكريات.
***
نحن، أقصد المتقدمين كثيرا فى العمر، متهمون بأننا ننسى أين تركنا نظاراتنا ومفاتيح سياراتنا والكتاب الذى كنا نقرأ فيه أو نتصفحه، ومتهمون بأننا ننام والتلفزيون مسموع ومضاء مثل نصف أضواء البيت، وبأننا نحرق أكلات نتجرأ ونحاول طبخها. صديق لى شكته لى زوجته وهى بالمناسبة ليست أصغر منه بكثير، تتهمه بأنه يترك محدثيه على الموبايل، ينسى أنه كان يحادثهم ولا يعود إليهم. أسمع الشكوى ساخرا فالخلافات العائلية فى هذا السن المتقدم أشد هولا من خلافات السن الأصغر. سمعت زوجا يسخر من زوجته المصابة بالفيروس القاتل وحين انتقل إليه اتهمها بأنها دسته له فى الطعام. صديقى هذا متعلم ويحمل شهادات أعلى من العادية ويجالس التلفزيون أكثر من مجالسته الزوجة، رفيقة العمر!. أخشى أن تكون المودة والمحبة قد صارت الآن على الطريق الذى سلكته قبلها أفواج السلوكيات المندثرة. لم يعودا وسام الشيخوخة كما ادعى الأسبقون.
***
لا أخفى أننى مستمتع باكتشافى. إذ لا يمر يوم إلا واتعرف على تفاصيل أخفتها عنى سنين الشباب ومشاغل الحياة. ما زلت أصر، رغم عديد المشكلات العادية، أننى أعيش فى هذه السن المتقدمة أحلى أيام العمر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خواطر في عمر يتقدم خواطر في عمر يتقدم



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon