توقيت القاهرة المحلي 06:27:05 آخر تحديث
الأحد 12 كانون الثاني / يناير 2025
  مصر اليوم -
أخبار عاجلة

خواطر في عمر يتقدم

  مصر اليوم -

خواطر في عمر يتقدم

بقلم:جميل مطر

أعيش فى عزلة أنا اخترتها ولا سبب ولا أحد دفعنى إليها. شجعنى موقع السكن المؤقت الذى انتقلت إليه على وعد العودة إلى الموقع الأصلى فور انتهاء أصحاب الأمر من ردم ما حفروا أمام بيت المهندسين وما حوله. سنوات مرت، هى بعمر ولاية دونالد ترامب إلا شهورا. تبدو الآن هذه السنوات كما لو كانت فى اضطرابها وهياجها على علاقة بقصة انعزالى وحكايات كوفيدــ19 وثورات شباب وحواديت سقوط عرب وصعود آخرين.
***
قالوا عنى، وأنا شاب أدرس فى الجامعة وشاب أعمل بالدبلوماسية وشاب أعمل بالتفكير والتحليل فى صحيفة كبرى وشاب أساهم فى انعاش العمل العربى المشترك وإدارة برنامج تقديم معونة فنية لدول إفريقية، وشاب مسئول عن دور فى دعم وتمثيل القضية الفلسطينية، ثم باحث وخبير فى منتصف العمر، ومؤسس مركز بحثى فى خريف العمر، وكاتب طول العمر، قالوا عنى أننى لم أهتم يوما اهتماما زائدا بالتفاصيل. عشت تكفينى من التفاصيل ما يسد رمق فضولى، الذى لم يكن فى أى يوم خاصية من أوائل خصائصى. أعترف الآن أن هذا النقص فى تكوينى المعرفى أضاع فرصا كثيرة، وأنقذنى فى الوقت نفسه من ورطات كان يمكن أن تكون جارفة. أعترف أيضا أن هذا النقص اختفى من حياتى يوم أصبحت إنسانا يعيش أياما مثيرة فى عمر متقدم. كل التفاصيل التى لم ألاحظها وأنا شاب أو رجل فى متوسط العمر عادت فى أيام وليالى العمر المتقدم تدق أبواب ذاكرتى وتنضم دون استئذان إلى مخزون هذه الذاكرة. قصص عشت أحافظ عليها عقودا عديدة صارت فجأة بعد انضمام المخزون ملاحم وسرديات وكنوزا معلوماتية ووقائع صمود أو استسلام أو عشق كان الظن أنه دفين. الذكريات بشكلها الجديد حلت بدون استئذان محل ذكريات بقيت، ولكن بما إنها خالية من التفاصيل، بقيت بالية وفى أحسن الأحوال باردة وغير مشبعة.
***
أيتها المجتمعات المحافظة أنا شاهد على تفاصيل ما تمارسين بعيدا عن عيون المتطفلين. حضرت وأنا صغير بالخطأ أو بالتنصت جلسات لكبار السن جرى فيها بالكلمات الصريحة ما لم أكن أسمعه فى بيوتنا من أهلنا وأقاربنا الأصغر سنا. كلمات من هذه الكلمات عادت اليوم تطل من نافذة الانفتاح فى دنيا الذكريات. أثارت فضولى دائما وأنا شاب هواية يمارسها الكبار جدا فى السن من الرجال فى جلسات السمر، هواية الحديث بلغة الإباحيات. من هؤلاء رجال كانوا يحرمون علينا ونحن فى سن المراهقة والشباب النطق بها ويا ويل من يعود من الشارع مع كلمة من هذه الكلمات يسأل فى البيت عن معناها. أذكر الآن كيف أن أبى المحافظ غالبا وسليل شجرة محافظين، كان يأخذنى معه إلى الحلاق أو إلى القهوة على ناصية شارعنا المنتهى عند شارع الترام. هناك فى القهوة أو عند حلاق الحى كان الكبار جدا يتلاقون مع أولادهم وبخاصة من استحق منهم التزيين أو التنزه مكافأة أو واجبا. الآن، الآن فقط، تستعيد ذاكرتى هذا الكم الهائل من كلمات كان الظن أن لسان أبى أو لسان جدى يعف عن النطق بها. سمعتهم وأنا طفل لا أفهم وأستعيدها اليوم وأنا كبير السن مثلهم، بل وأكبر، وسمعتهم وأذكر جيدا أن لا وجه من وجوه وجهاء الحاضرين احمر مرة واحدة على طول جلسات عند حلاق الحى أو سهرات فى بيوت صديقات وأصدقاء لهم. سمعت فى بيروت وصنعاء وفى تونس رجالا تقدم بهم العمر يتقارعون شعرا إباحيا وكلهم من علية القوم المشهود لهم بالعقل المحافظ سياسيا ودينيا وسلوكيا، نعم مشهود لهم على الأقل فى العلن.
***
عدت أخيرا إلى حافظة أوراقى للتأكد من معلومة فى لقاء مع مسئول أجنبى كبير. جرى اللقاء قبل أربعين عام. وجدت ما أردت وبدأت أطوى الصفحة. فجأة توقفت. عدت إلى الصفحة. قرأتها مرتين وثلاثا يا للهول. وجدت القلم يسابق الأفكار ليسجل تفاصيل أخرى عن اللقاء لم ترد فى النص الأول. سجلت معلومات ما كان يجدر بى وأنا الحريص دائما على ألا اتجاهلها أو أدعها تسقط من قلم أثق فى أنه لم يتهور على امتداد عهود صحبتنا. لم أغضب وأنا أقرأ ما فاتنى تسجيله من معلومات قد تهم من كلفنى باللقاء. إنما غضبت لهذا الكم من التفاصيل غير المسجلة من معلومات ظلت محبوسة فى خزانة الذكريات.
***
نحن، أقصد المتقدمين كثيرا فى العمر، متهمون بأننا ننسى أين تركنا نظاراتنا ومفاتيح سياراتنا والكتاب الذى كنا نقرأ فيه أو نتصفحه، ومتهمون بأننا ننام والتلفزيون مسموع ومضاء مثل نصف أضواء البيت، وبأننا نحرق أكلات نتجرأ ونحاول طبخها. صديق لى شكته لى زوجته وهى بالمناسبة ليست أصغر منه بكثير، تتهمه بأنه يترك محدثيه على الموبايل، ينسى أنه كان يحادثهم ولا يعود إليهم. أسمع الشكوى ساخرا فالخلافات العائلية فى هذا السن المتقدم أشد هولا من خلافات السن الأصغر. سمعت زوجا يسخر من زوجته المصابة بالفيروس القاتل وحين انتقل إليه اتهمها بأنها دسته له فى الطعام. صديقى هذا متعلم ويحمل شهادات أعلى من العادية ويجالس التلفزيون أكثر من مجالسته الزوجة، رفيقة العمر!. أخشى أن تكون المودة والمحبة قد صارت الآن على الطريق الذى سلكته قبلها أفواج السلوكيات المندثرة. لم يعودا وسام الشيخوخة كما ادعى الأسبقون.
***
لا أخفى أننى مستمتع باكتشافى. إذ لا يمر يوم إلا واتعرف على تفاصيل أخفتها عنى سنين الشباب ومشاغل الحياة. ما زلت أصر، رغم عديد المشكلات العادية، أننى أعيش فى هذه السن المتقدمة أحلى أيام العمر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خواطر في عمر يتقدم خواطر في عمر يتقدم



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

أيقونة الموضة سميرة سعيد تتحدى الزمن بأسلوب شبابي معاصر

الرباط ـ مصر اليوم

GMT 08:41 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
  مصر اليوم - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 08:54 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل
  مصر اليوم - أبرز العيوب والمميزات لشراء الأثاث المستعمل

GMT 22:20 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 13:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 14:38 2025 الجمعة ,10 كانون الثاني / يناير

زيت زيتون يساعد على تقوية الشعر ونموه

GMT 20:46 2021 الأربعاء ,19 أيار / مايو

هايدي كرم تخطف أنظار متابعيها من أحدث ظهور

GMT 12:53 2021 الأحد ,17 كانون الثاني / يناير

تغييرات جديدة في تشكيل الأهلي أمام البنك الأهلي الأحد

GMT 08:46 2020 الأحد ,27 كانون الأول / ديسمبر

كأس السوبر طوق النجاة لـ هازارد داخل ريال مدريد
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon